قريبا جداً…
قريبا جداً.. سأعود كأي إنسان بسيط، يعمل ويكد ليحصل على راتبه الزهيد الذي لا يكفي سوى ضرورياته، يومه يبدأ في الخامسة، ليمضي إلى عمله الذي لم يحبه ابداً. وقريبا جداً، سيحب عمله، لأنه الذي يكفيه الجوع والحاجة.
سأتقبل بصدر رحب وبشكل يومي تكشيرة رجل المن على بوابة المحطة، والطابور الطويل من السيارات عند نقطة التفتيش. سأقضي ساعاتي الثمان في العمل، دون ان اشعر بالسأم والحاجة لإجازة، فالإجازات ترف لا تصلح لمثلي.
سأفتح مع الزملاء موضوعات لم تكن في قائمة إهتماماتي، سنتجادل حول هدف ميسي في مباراة برشلونة مع ريال مدريد في الليلة الماضية، أنا لم أكن أعرف ميسي إلا من أحاديث إخوتي ومن صوره على علبة البيبسي، ومن فانيلة ولدي الذي اختارها. لم أره يوما يلعب، لم ار برشلونة أو ريال مدريد، يبدو اني قضيت عمري الماضي جاهلا، بما يعرفه الناس. سأتكلم مع زملائي عن الزيادة السنوية والعلاوات، والتقاعد، والتأمين الاجتماعي، سنتبادل نكات المحششين والنكات الجنسية، اعلم أن الساعات الثمان ستنقضي دون اشعر.
قريبا جداً.. سأعود إلى بيتي في الثالثة والنصف، وسأتحمل كل مرة طابور التفتيش الطويل، وإصرار بعض السائقين على اختراق الطابور الذي أنا فيه والدخول عنوة. سأعود في الثامنة، على بيتي ينتظرني غذائي ومراجعة دروس طفلي. لن اسأم من رمي الزبالة كل مرة، ولن اسأم من غسيل مدخل البيت رغم معرفتي أن الغبار قادم، سأبتسم للغبار، ولن العن الأرصاد الجوية التي لم تنبهنا.
قريبا جداً.. سأجلس بكوب شاي، أمام التلفزيون بعد عودتي من شراء مقاضي البيت، وطلبات مدارس طفلي، لأحسب على ورقة كم بقي من راتبي، وأفتح التقويم لأحسب اليام التي تفصلنا عن نزول الراتب القادم. وقريبا جداً.. سأقضي المساءات أمام التلفزيون، أقلب قنواته، لن أقف عند نشرة أخبار، أو لقاء مع شاعر، أو مسرحي، أو أمسية منقولة، أو برنامج عن السينما الشبابية، سأقف عند مباراة، لأتابعها بحماس، سأشتري بالطبع رسيفر يستقبل قنوات رياضية مشفرة، لا بأس ساضعها ضمن الميزانية. فكيف سأجادل زملائي في هدف ميسي وأنا لم أتابع المباراة؟. ربما يمنعني عن مشاهدة المباراة زوجتي وهي تشاهد مسلسلها التركي. لا بأس..!
قريبا جداً.. سأغير هاتفي لهاتف نوكيا بلا كاميرا ولا برامج، من جهة أستطيع الدخول إلى مكان عملي دون أن يفتشني رجل الأمن تفتيشا كتفتيش المطارات بحثا عن جوال أبو كاميرا، ومن جهة أخرى لأهجر الفيسبوك والتويتر، والانستغرام. فقريبا جداً.. لن يكون لي علاقة لا بالمسرح، ولا بالثقافة ولا بأي من أهتماماتي الساذجة السابقة. سأهجر أصدقائي المسرحيين والمثقفين واتعرف على اصدقاء جدد، لديهم الجديد من النكات، والمهووسين بالجدال. وقريبا جداً .. سأحرق كتبي، أو أبيعها على الرصيف، وسأجعل من المكتبة مخزنا لمواد الغذائية، سأمسح ذاكرتي تماما، وأستعيض بها ذاكرة جديدة، ذاكرة نقية، من كل شيء .. سوى من هذا الرجل الجديد، الرجل العادي الروتيني الذي لا يملك طموحاً سوى أن ينتهي من قرضه البنكي.
قريبا جداً .. سأكون الرجل الذي يريده الآخرون ولا أريده أنا.