هجرة النوارس البرية

 

إخراج أبو الحسن حميد-العراق

الشخصيات:

الأولى:  مخرجة مسرحية، تتوق لأن تمارس المسرح في مكان أكثر حرية، تعبر فيه عن ذاتها، لأنها لا تجد في وطنها مكاناً تمارس فيه شغفها بالمسرح.

الثاني: شخص متطرف، يرى أن أهل بلده غير متدينين، ولا يستطيع الحياة معهم، مما جعلته هذه الفكرة عرضة لممارسة الإرهاب ضدهم، وبعد خروجه من السجن بعد عملية إرهابية نفذها وزملائه يقرر الرحيل.

الثالث: عاطل عن العمل، خسر كل ما يملك بعد إنهيار سوق الأسهم، يبحث عن بداية جديدة.

الرابع: رجل ينتمي لأقلية، لا يشعر أنه ينتمي للأكثرية التي يعيش وسطها، يرى في المغادرة وسيلة للبحث عن حرية وبحثاً عن إنتماء جديد.

الخامسة: إمرأة حامل في شهورها الأخيرة، تبحث عن الإنجاب في الخارج لتضمن حياة أفضل لوليدها.

 

المشهد الأول

 

يبدأ العرض بعرض لقاءات سريعة مع شريحة من الشباب يجيبون على سؤال حول الهجرة عن أوطانهم، هل يرغبون في الهجرة وما السبب الذي يدفعهم، وإلى أين يرغبون؟. إظلام، ثم إنارة المسرح بالتدريج.

في صباح يومٍ عادي وقرب شاطئ البحر. المسرح مؤثث بحقائب سفر، وملابس متناثرة، وأغراض تدل على بقاء شخوص المسرحية لوقت طويل. تسمع أصوات نوارس وأمواج بحر، يضاء المسرح عن خمسة أشخاص، كل واحد منهم يواجه جهة من جهات المسرح الأربع ويحدق فيها، عدا الخامسة التي تقعد في وسط الخشبة.

الأولى:           لم يأتِ بعد.

الثاني:            سيأتي، هو قال أنه سيأتي.

الثالث:           لكنه تأخر، مع أنه وعد بأنه سيأتي.

الرابع:            سيأتي، أنا متأكد أنه سيأتي.

الخامسة:         (وهي تضع يدها على خاصرتها) يا الله، إنه لم يأتِ بعد.

الأولى:           إذا كان قد قطع وعداً، فإنه سيأتي.

الثاني:            خلف الوعد من علامات المنافق، وهو لايبدو عليه النفاق.

الثالث:           نعم، لا يبدو عليه النفاق.

الرابع:            قد يكون مثل الآخرين.

الثاني:            (بسخرية) ومن أنت لتحكم عليه؟!.

الخامسة:         الآخرين الأولين، المهم أن يأتي.

الأولى:           (تشير بإصبعها إلى جهتها) لا بد أنه سيأتي من هنا.

الثاني:            (يشير بإصبعه إلى جهته) بل من هنا، نعم من هنا.

الثالث:            (يشير بإصبعه إلى جهته) أشعر أنه سيأتي من هنا، من هنا نحن جئنا.

الرابع:             ( يضحك) ما بك؟، هل نسيت أننا جئنا من هنا؟ (يشير بإصبعه إلى جهته).

الأولى:            وهل سيأتي من ذات المكان؟.

الرابع:             من أين سيأتي إذاً؟.

الثاني:             لكننا جئنا من هنا، يبدو أنكِ فقدتِ ذاكرتك.. نحن جئنا من هنا.

الثالث:            لا، أنتما مخطئان. نحن جئنا من هنا، يبدو أن الانتظار أفقدكما القدرة على التذكر.

الخامسة:         لا أظن. أتذكر أننا جئنا من هنا، أنا أكيدة.

الأولى:            أنا أملك ذاكرة جيدة، وما أذكره أنا مجيئنا كان من هنا، وليس من هناك أو هناك.

الرابع:             إننا نتجادل على أمر ليس بذي أهمية.

الثاني:             وما المهم؟.

الرابع:             أن يأتي.

الثالث:            سيأتي.

الخامسة:         (تمسك جنبها بألم) ليأتي ويريحنا.

يتراجعون، ويتكتلون بالوسط عدا الأولى التي تظل في مكانها، ينشغل كل واحد منهم بترتيب أغراضه، تتنقل الأولى من جهة إلى أخرى وهي لا تكف عن التحديق.

الرابع:             تعالي أجلسي الآن، لاحقاً سننتظره.

الثالث:            إذا كان سيأتي فإنه سيدخل علينا حتى لو لم ننتظره.

الخامسة:         نعم، ستتعبين من الانتظار، تعالي لتريحي جسدك قليلاً، ولتجهزي حقائبك. يجب أن تكوني جاهزة على الدوام.

الثاني:             (يهز رأسه بضيق وهو يحاول غض طرفه عن المرأتين) لا حول ولا قوة إلا بالله.

 تترك الأولى مكانها وتقترب منهم، تضحك.

الأولى:            (تضحك بسخرية) كم نحن أغبياء، نحن ننتظر وهماً، كأننا ننتظر غودو.

الثاني:             (مستنكراً) غودو؟، من هذا الغودو؟.

الأولى:            لا عليك، شخص لا تعرفه أنت. (صمت) أنا سئمت من الانتظار. إنه عبث حقيقي.

الخامسة:                   وقت طويل مر ونحن ننتظر دون جدوى.

الثالث:            نعم وقت طويل، (يحاول التذكر) كم من الوقت صار لنا هنا؟.

الرابع:             منذ، منذ .. (يحاول التذكر) .. أظنه منذ وقت طويل.

الثاني:             لكن منذ متى؟، أيذكر أحدكم منذ متى ونحن هنا؟، (للثالث) أتذكر؟!

الثالث:            لا، لا أذكر. (للأولى) أتذكرين؟

الأولى:            (تترك التحديق وتتجه إليهم) ربما جئنا منذ… صحيح!، متى جئنا إلى هنا؟!

الثالث:            لو كنت أملك هاتفاً خليوياً لعرفت منه التاريخ.

الرابع:             فرغت بطارية هاتفي منذ مدة طويلة.

الأولى:            وأنا أيضاً هاتفي بلا بطارية، لكن لا أدري منذ متى.

الثاني:             أنا زهدت في هذه المتع الدنيوية، إنها تشغل المؤمن عن تقربه من ربه.

الثالث:            وكيف نعرف منذ متى ونحن هنا؟، (للخامسة المشغولة ببطنها) أتذكرين أنتِ؟.

الخامسة:                   لا.

الأولى:            كم لك من شهور الحمل؟.

الخامسة:         هه!، بصراحة نسيت، لكن بطني كبر منذ جئنا. لا أدري منذ متى ونحن هنا. (للثاني) هل تذكر أنت؟

الثاني:             (بحدية) ومن أين لي أن أعرف؟، الأهم أن لا ننسى أوقات الصلوات.

الأولى:            طيب، أتذكر كم مرة صليت هنا؟

الثاني:             (يحاول التذكر ويحسب على أصابع يديه) إنها.. يا إلهي؛ أنا لا أتذكر.

الخامسة:                   أرجوك تذكر، أريد أن أعرف كم لي من الوقت وأنا حامل. متى سألد؟!

الثاني:             لمَ لا تعودين إلى هناك، وتسألين الطبيبة. تريحين نفسك وتريحينا.

الخامسة:         (بإصرار) لن يكون لك ما تتمنى (تتألم من ضربة الجنين.. ثم تضحك وتضع يدها مكان الضربة، تلاعبه) آلمتني يا عفريت.

الأولى:            (للخامسة بفرح وهي تتجه لها) هل بدأتِ تشعرين به؟

الخامسة:                   نعم، ضعي يدك هنا.. (تضع يد الخامسة على بطنها).

الأولى:            (تتحسس بطن الخامسة بفرح، تشعر بضربة الجنين) يا الله، كم هو جميل هذا الإحساس.

الثاني يسترق النظر، تتنبه الخامسة له.. تقترب منه.

الخامسة:                   (تواجه الرابع) هل تريد أن تضع يدك أنت أيضاً؟!.

يبتعد كالمصعوق..

الثاني:             استغفر الله ربي .. استتري يا إمرأة، استتري.

الثالث:            أنا أريد.

الثاني:             (غاضباً للثالث) أستحِ يا رجل. عيب.

يبتعد الثالث بخجل. فتقترب الخامسة من الثاني الذي يفاجأ بها.

الخامسة:                   ما هو العيب الذي تعنيه؟. لا أظن أن جسد إمرأة حامل سيثيره ويوقعه في الحرام.

الثاني:             يا إمرأة. العيب عيب، لا أدري أي نوع من الرجال زوجك ذلك الذي رمى بك إلينا.

الأولى:            وهل هناك أنواع من الرجال؟.. كلكم سواء.

الثالث:            و هل أنا مثلهم؟.

الأولى:            وما الذي يجعلك تختلف؟.

الرابع:             (يقطع جدلهم بشهقة عالية) إنها فجيعة، يا الله.

يتنبهون له

الرابع:             هل تعلمون منذ متى ونحن هنا؟

الأولى:            (بلهفة) قل، منذ متى؟

الرابع:             منذ وقت طويل جداً.

الخامسة:                   (بلهفة) يعني منذ متى؟

الثالث:            هل تدري منذ متى؟.

الرابع:             لا أدري بالضبط، ولكن انظروا إلى قطعة الحديد تلك التي سقطت من حقيبتي (يرفع قطعة حديد صدئة) لقد غطّاها الصدأ.

الأولى:            يعني أنه مر وقت طويل جداً منذ جئنا لانتظاره.

الثاني:             يا الله. لقد تأخر، رغم أنه كان يقول أنه سيأتي.

الثالث:            سيأتي، يحتاج الأمر لبعض الصبر.

الخامسة:         فليأت سريعاً، لم يعد فيّ صبر.

الثاني:             وإذا لم يأتِ؟.

الأولى:            ننتظره، حتى يأتي.

الرابع:             (يقعد على حقيبة من الحقائب الموزعة على الخشبة) أنا أنهكني الانتظار.

الثالث:            وأنا سأمت. أكره الانتظار.

الثاني:             تفاءلوا بالخير تجدوه، ولا تقنطوا من رحمة الله.. لا بد أنه سيأتي.

الخامسة:         لست وحدي من سئم، حتى جنيني.. تسرب السأم إليه.

الأولى:            انتظارنا طال، وأنا مللت هذا الحال الذي نحن فيها.

الثالث:            والحل؟، لا أريد العودة، أنا لا أملك شيئاً هناك، يجب أن نصل إلى الضفة الأخرى.

الرابع:             وأنا لا أريد العودة، لا أريد العودة لأكون على الهامش.

الخامسة:                   نعود؟، لا يمكن أن أعود بعد كل هذا التعب.

الثاني:             لم هذا القنوط؟، سيأتي، من مكان ما، وسنغادر إلى هناك.. أنا مثلكم لا أريد العودة.

الأولى:            ما الذي سنفعله ونحن ننتظر، قد يطول الانتظار أكثر، لم يعد لي ما أقتل الوقت به، انتهيت من قراءة كل كتبي التي عبأت حقائبي بها.

الثاني:             (بلهجة خطابية) أتسمين تلك الترهات كتباً؟!، مسرح، فلسفة، موسيقى، كنت تقتلين الوقت بما لا ينفع يا امرأة.

الأولى:            (تكتم غضبها) هي تنفعني أنا.

الثاني:             (بخطابية مصطنعة) لو أنك تبقين ببيتك لكان أفضل لك، المرأة حصنها بيتها. ثم إني أستغرب من إصراركم على هذا المسرح، أنا لا أرى فيه نفعاً.

الرابع:             أنتم لا ترون نفعاً في أي شيء.

الثاني:             (للرابع) ولمَ تتدخل بيننا؟.

الرابع:             لأني أعرفك جيداً، بدأت بالنساء، وانتقلت للمسرح ثم سيصيبنا شررك كلنا، أنت ترانا كلنا فاسدين. ولا نصلح لجنتك.

الثاني:             (بإصرار) خاصة أنت.

الرابع:             (بحدة) لأني لا أشبهك؟، أنتم تريدون الجنة لكم وحدكم، كأنها خلقت لكم.

الثالث:            أيها الأصدقاء، هل سنبدأ في التصارع؟.

الثاني:             (للثالث) قل له ألا يتدخل فيما لا يعنيه.

الخامسة:         (وهي تمسك بطنها) كفى شجاراً. لا أريد لولدي أن يتربى على العنف.

الثاني:             (بعد أن يبحث في الأرض. يعطيها بطانية كانت مرمية، وبسخرية) خذي هذي. استريه عنا حتى لا يصاب بعقدة.

الخامسة:         المهم ألا يصاب بعقدكم. خاصة عقدتك أنت.

الثاني:             (يصرخ في وجهها غاضباً ويرفع يده في وجهها) أنا معقد؟.

تصرخ الخامسة، وتولول..

الخامسة:         (تصرخ في وجهه) يا ويلي. تريد أن تضربني وتسقط حملي. ما ذنب جنيني؟. ثم كيف تضرب إمرأة؟. أليس في قلبك رحمة؟، أليس فيك رأفة على إمرأة حامل.

يقف الثاني مشدوهاً ولا ينبس ببنت شفة.

الخامسة:         إذا ما وصلنا لن أتركك. سأحاكمك لأنك تعديت على إمرأة حامل.

الرابع:             وأنا شاهد. (للثالث) هل تشهد أنت؟

الثالث:            لا. لا أرغب في التورط مع أحد.

الثاني:             يشهد على ماذا؟. أنا لم أفعل ما أستحق عليه المحاكمة.

الخامسة:         هممت بضربي وتقول لم تفعل شيئاً.

الأولى:            (تحاول تهدئة الجميع) يا أصدقاء!، ما لكم وهذا الصراع. نحن اتفقنا منذ البداية أن ننسى كل خلافتنا هنا.

الثالث:            أنا لا أملك خلافاً مع أحد.

الخامسة:         وانا مثله. لكنه (تشير للثاني) جاء وهو يضعنا كلنا في سلة واحدة. لا يريد أحداً منا.

الرابع:             من لا يشبهك هو عدوك.

الثاني:             ليس صحيحاً.

الأولى:            (تحاول تهدئة الحدة، للثاني) بالنسبة لي أنا تناسيت كل ما بيننا من اختلافات، تناسيت يا صديقي أن جماعتك هم سبب هجرتي.

الثاني:             أنا لست صديقكِ. ثم ما شأني بهم؟

الأولى:            من كان يتربص بنا وبمسرحياتنا؟، من كان يلاحقنا من صالة عرض لأخرى ليوقفها؟. من منعني من الوقوف على الخشبة. فقط لأني إمرأة.

الثاني:             أنا لم أشارك معهم.

الأولى:            لكنك كنت معهم، تؤمن بأفكارهم وتتبناها.

الثاني:             (بإصرار) نعم كنت معهم.البلد صار كالماخور الكبير، فساد يملأ كل مكان، ما عاد للدين مكان هناك.

الخامسة:         بلد بهذا الحجم. أصبح ماخوراً؟. (تقلده بسخرية) اللهم أجرنا يارب العالمين.

الثالث:            يا صديقي. أنت واهم.

الرابع:             المشكلة أنكم لا ترون إلا من زاوية واحدة، تريدون كل الناس نسخاً جاهزة منكم.

الثاني:             (للرابع) تعني أن نقبل بكم بيننا.

الرابع:             أنا ابن هذا البلد مثلي مثلك، رضيت أم لم ترضَ.

الأولى:            أنا أستغرب من إصرارك على هذه الآراء رغم أنها عرضتك للسجن ولقطيعة أهلك.

الثاني:             (بخطابية) أهلي فارغون من العقيدة. ثم أن مصير المجاهدين القطيعة والسجن والقتل.

الثالث:            أنا أفضل الانسحاب، لا نفس عندي للجدال، سأبحث لنا عن طعام (يخرج وهو يهز رأسه أسفاً).

الخامسة:         أنا مثلك، لا نفس لي لا على الجدال ولا على غيره. يكفيني هذا الوحم المستمر. سآتي معك.

يخرجان.

الرابع:             وأنا أنسحب، لأني تعبت من هذا الجدال العقيم، الرجل لن يتغير (يتراجع ويواجه البحر وهو يراقب).

لحظات صمت، تقترب الأولى من الثاني، ويبتعد عنها بنفور.. تبتسم.. وتبقى مكانها.

الأولى:            حين التقينا هنا، لم أفكر أبداً في من أنت وماذا تكون. لم أضع حاجزاً بيني وبينك، كان يهمني أن نبني ثقة متبادلة، لأن قارباً واحداً سيجمعنا، وسيجمعنا ذات المصير. وهذا ما علمني إياه المسرح، علمني أن أختلف دون أكره. المسرح الذي لا تجد فيه نفعاً.

الثاني:             أنا أعلم أن قاربا واحداً سيجمعنا إلى تحقيق أحلامنا في الضفة الأخرى، لكني لا أستطيع التخلص من شعوري تجاهكِ وتجاه الآخرين.

الأولى:            أنا تخلصت من نفوري منك، رغم أن جرحاً لازال في صدري، فأنتم سبب عزمي على الهجرة، بسببكم تركت كل شيء وراء ظهري، المسرح وأحلامي و أصدقائي.

الثاني:             الناس في الضفة الأخرى تعودوا على المسرح، لكن عندنا الوضع مختلف، لا تفسدوا إيمان الناس بهذا المسرح، يكفيهم ما يفسدهم.

الأولى:            نحن نفسد؟!، هل لك أن تخبرني عن المرات التي حضرت فيها مسرحية لتحكم عليها.

الثاني:             (بارتباك) لم أحضر، ولا أريد أن أجلب الشبهة إلى نفسي.

الأولى:            المسرح شبهة؟

الثاني:             نعم شبهة، سيقاطعني جماعتي كما قاطعني الناس، على الأقل أنا لا زلت في نظرهم المجاهد الذي ضحى في سبيل الله.

الأولى:            (تقف وتواجهه) أنتم حكمتم علينا بالموت دون جريمة، أغلقتم المسارح في وجوهنا، زرعتم الخوف في نفوس الممثلين فهربوا من الخشبات. أتعب وأنا أبحث عن ممثلٍ يرضى بتأدية دور في مسرحية، لأن كل الممثلين خافوا من سطوتكم على أفكارنا، ومن طلقة رصاصة قد تودي بحياة واحد منهم، تكدست النصوص على طاولتي، مشاريعي المسرحية كلها باتت مؤجلة بسببكم.

الثاني:             نحن لسنا مجرمين لنقتل.

الأولى:            ودخولك السجن؟.

الثاني:             (يقف بعصبية) يا سيدتي ليس هدفنا أنتم، كان لنا أهداف أهم.

الأولى:            و حين تنتهون ستوجهون بنادقكم لصدورنا.

الثاني:             لا تخافي مني، أنا مغادر معك، ولن أسدد سلاحي في وجهك.

الأولى:            (يشير إلى الرابع) وفي وجهه؟.

الثاني:             لم أصل إلى حد الرغبة في قتله.

الأولى:            رغم الاختلاف؟!.

يهز الثاني رأسه إيجاباً

الثاني:             (يشير للرابع) ننتظر معه؟!.

يدخل الثالث بحماس وفي يده بعض الفواكه.. وتدخل الخامسة بعده وفي يديها بعض الفواكه     وبخطوات ثقيلة  

الثالث:            (وهو يتنفس بسرعة) تعالوا بسرعة، لقد وجدت قارباً هناك، قارباً صالحاً للإبحار.

الخامسة:         (وهي تتنفس بسرعة وتضع يدها على بطنها) لا أدري كيف جعلتني أركض وراءك؟.. تعبت.

يضع ما بيده جانباً، ويتجمعون في الوسط

الأولى:            أين؟!، أخبرنا.

الثالث:            هناك، على بعد مسافة من هنا.

الرابع:             ومن أين جاء هذا القارب؟

الثاني:             ربما هو، قد يكون أتى إلى هنا، لنبحث عنه.

الخامسة:         (وهي تتنفس بسرعة) يبدو أن القارب يرسو منذ زمن هناك.

الثالث:            نعم.. ولكننا لم نلحظه إلا الآن.

الأولى:            وهل يمكننا أن نبحر به؟.

الرابع:             إلى أين؟

الأولى:            إلى الضفة الأخرى.

الرابع:             لكننا لا نعرف الاتجاهات، لا نعرف كيف نبحر.. من منكم يعرف؟.

الثاني:             أنا لم أبحر من قبل.

الثالث:            وأنا لم أسبح سوى على الشاطئ.

الأولى:            لا أعرف في الماء سوى السباحة.

الخامسة:         وأنا أريد قطرة ماء أبلل بها حلقي.

الثاني:             (للرابع) أنت ابن صياد، والصيادون يعرفون البحر.

الرابع:             ولهذا فكرت في الهجرة، كوني ابن صياد هو ما جعلني أهرب. (بحدة) أخبرتك قبلاً أن أبي ترك الصيد والبحر، لأن أحداً لم يشتر منه سمكه، لأنه لا يشبههم.

الثاني:             ولماذا توجه لي أنا الكلام؟.

الرابع:             لأنك تشبههم.

الثاني:             أنا لا أشبه أحداً، أنا أعمل وفق قناعاتي.

الرابع:             وقناعاتك مثلهم، كنت تواجهني بالرفض منذ أتينا إلى هنا.

الثالث:            أنا هربت من هنا بسبب هذا الجدال، وهاهما يعودان ثانية.. أفف!، (للخامسة) هل تهربين معي عنهم؟!.. تعبت من جدلهم.

الخامسة:         (والتعب بادٍ عليها) إذهب وحدك. جدلهم أفضل من الركض وراءك.

الأولى:            لنفكر الآن في طريقة للإبحار.

الثاني:             لمَ لا ننتظره؟!، لا بد أنه سيأتي.

الرابع:             لكن الانتظار أنهكنا، إلى متى نبقى؟، العودة مستحيلة، والانتظار ضرب من الجنون.

الثاني:             لكننا لا نعرف البحر، كيف سنبحر بدون دليل؟.

الثالث:            وكيف نعود إلى بيوتنا بلا دليل؟، لا يمكننا أن نعود، نحن عالقون هنا، والحل أن نبحر.

الخامسة:         أنا لا أريد العودة. لا بد أن أصل إلى الضفة الأخرى قبل المخاض.

الثاني:             أتعنين أن نبحر؟.

الأولى:            بقاؤنا لن يحقق أياً من أحلامنا.

الرابع:             فقط الإبحار، في الضفة الأخرى عالم مختلف، عالم لا يضيره الاختلاف، لن يبحثوا فيّ عن تشابه، هناك وطن لأحلامنا، أريد أن أعيش حياة لا أكون فيها على الهامش. وسيلتي الوحيدة ذلك القارب.

الثالث:            أنا أيضاً أريد أن أبحر، أريد أن أبدأ من جديد، أريد أن أنسى كل الخسارات، أريد أن أملأ جيوبي بالمال كما كانت مملوءة قبل أن تلتهمها المضاربات اللعينة، قبل أن أصاب كغيري بلعنة الألوان، أخضر، أحمر، أخضر، أحمر، وراح كل شيء في ومضة أحمر.

الأولى:            (للثاني) أملنا الوحيد هذا القارب، أملك أنت أيضاً، هناك ستنسى نظرات الناس القاسية، هل تريد العودة؟. سينبذك الناس، أهلك لا يرغبون بوجودك، لأنك مسست أمنهم.

الخامسة:         وأنا أريد الإبحار. أريد لطفلي أن يخرج إلى عالم مختلف. عالم أفضل، عالم لا معنى للفقر والحاجة فيه. أريده أن يحمل جواز سفر يسافر به إلى كل الدنيا دون أن توقفه نظرات التوجس.

الثالث:            إنه الخلاص.

الأولى:            لنبحر به، ألا تدركون مدى الوجع الذي يتملكني؟!، أريد مسرحاً، أنا أعيش بالمسرح، لن أعود لأكون إمرأة عادية، تأكل، وتشرب، تتزوج وتنجب اطفالاً، وتنشغل بالطبخ والعناية بالبيت، أريد أن أخرج مسرحية عنا، عن معاناتنا، عن هذا القلق الذي نعيشه. ألا تستحق قصتنا مسرحية عظيمة؟.

الثاني:             ومن يضمن لنا الوصول إلى الضفة الأخرى.

الرابع:             من يضمن لنا الحياة؟

الثاني:             أليس في الأمر مخاطرة؟

الثالث:            أليس وجودنا هنا مخاطرة؟

الثاني:             أنا خائف، أنا لا أعرف أسرار البحر.

الخامسة:         وهل ترانا بحارة؟.من منا يعرف لهذا البحر من أسرار؟

الرابع:             كلنا مثلك، أنا ابن صياد، ومع هذا لا تربطني به علاقة. هل نبحر؟

صمت، تردد من الثاني، ينقل نظراته بينهم..

الثاني:             نبحر!.

يقفزون ويتراقصون

الرابع:             سنبحر، سنبحر، سنأتي إليك أيتها الضفة الأخرى.

الثالث:            سنأتي كالفاتحين على ظهر قارب.

الأولى:            هيا سنمثل مشهداً لإبحارنا.

يبدأون، إلا الثاني الذي يقف يراقبهم وعلى وجهه ابتسامة، والخامسة التي تظل في جلستها تراقبهم. يمثلون أنهم يجهزون لسفينة، يرفعون الأشرعة..

الأولى:            (بدور الربان) هيا يا بحارة، ارفعوا الأشرعة، وجهزوا السفينة للإبحار.

الثالث:            (باندماج) رفعنا الأشرعة، الريح مناسبة للإبحار أيها الربان.

الأولى:            ارفعوا المراسي.

يمثلون أنهما يرفعان المراسي

الرابع:             المراسي رفعت أيها الربان، السفينة جاهزة للإبحار.

الأولى:            (للثاني) ألن تصعد إلى السفينة أيها الصديق؟، سوف نبحر الآن.

يتردد قليلاً .. ثم يسرع إلى جهتهم..

الثاني:             انتظروني، سأبحر معكم..

الخامسة:                   (تقف بصعوبة وتنضم لهم) خذوني معكم.

يضحكون، ويواصلون أداء التمثيلية..

إظلام

 المشهد الثاني

في جهة أخرى من الشاطئ، قارب صغير يرسو مربوط في جدع شجرة، صوت الثالث من الخارج.

ص.الثالث:       من هذا الاتجاه، إنه يرسو هناك.

يدخل الثالث وهو يحمل حقائباً، ويجرجر بعض الأكياس والأغراض

الثالث:            ها هو، لقد وصلنا..

يدخلون بعده وهم يحملون حقائبهم، يتوسطون المسرح، يرمون حقائبهم وأغراضهم، ويتجهون ناحية القارب، يتفحصونه بعناية..

الثالث:            (للأول) هل رأيت؟، إنه قارب جيد.

الرابع:             مشكلته أنه صغير، هل سيسعنا خمستنا؟.

الثاني:             ليس وحدنا، بل كل أغراضنا معنا.

الأولى:            نعم، أنا لا أستغني عن أيٍ من حقائبي.

الثالث:            أنا ليس لدي شيء، كل هذه الحقائب لكم، وأتصور أنه سيسعني.

الخامسة:                   ليس عندي سوى هذه الحقيبة. فيها ملابسي وملابس طفلي.

الرابع:             أظن أنه يسع.

الثاني:             (ببعض القلق) وهل سيوصلنا إلى الضفة الأخرى؟.

الرابع:             إذا كان البحر هادئاً سنصل، لا أظن أن الضفة الأخرى بعيدة.

الأولى:            منذ جئنا لم نشهد هيجان البحر.

الخامسة:                   ولم تمر بنا أية عاصفة.

الثالث:            سيكون رحيماً بأحلامنا، سيحملنا إلى هناك.

الثاني:             أنا أشك أن القارب هذا سيوصلنا، إنه صغير جداً، وخشبي.

الرابع:             وهل ستظن أنه لو أتى، سيأخذنا إلى هناك بسفينة كبيرة. لا أتصور أن قاربه سيكون أكبر من هذا.

الثاني:             ألا يوجد طريقة أخرى غير هذا القارب؟.

الخامسة:         لن تنفع سوى هذه الطريقة.

الثالث:            قريب لي جرب الهرب في سيارة، حشر طوال رحلة طويلة بين كراسي السيارة، لكنه كُشف. ولن تمر هذه الحيلة على رجال الجمارك.

الرابع:             يا الله. تصور رحلة من ساعات طويلة، وأنت محشور، متكوم، لتصل إلى الضفة الأخرى. وبعدها تكشف؟.

الخامسة:         كلنا جربنا التكوم لشهور تسعة في بطون أمهاتنا.

الثالث:            وهل تقارنين رحم أم بسيارة؟

الرابع:             لن تنفع سوى هذه الطريقة.

الأولى:            لا مجال لوصولنا إلى هناك سوى بهذا القارب، (للثاني) ولا تنسَ أننا سنصل إلى هناك بطريقة غير قانونية.

الثاني:             لم أنس ذلك، أنا أشعر بالخوف، هذه المرة الأولى التي أبحر فيها، ولا أعرف كيف سيكون البحر.

الثالث:            وهل تجدنا كلنا بحارين؟، نحن مثلك.

الثاني:             (بقلق) لننتظره لليلة واحدة، غداً صباحاً نبحر.

الخامسة:         كل يوم يمر في الانتظار يعني ضياع أملي في الولادة هناك.

الأولى:            لن يأتي، أنا فقدت الأمل في مجيئه.

الرابع:             وأنا كذلك، أصبح الانتظار عملنا اليومي الممل، أريد أن أتخلص منه.

الثالث:            ستنتظرنا حياة أخرى، سنصل وننسى كل شيء، سننسى هذا التعب والانتظار، يقولون أن الحياة هناك أجمل.

الخامسة:         حين ألد، ويخرج طفلي واحتضنه بين يدي، سأنسى كل شيء، سأنساكم حتى.

الثاني:             (باستجداء) أشعر أنه سيأتي، انتظار ليلة واحدة لا يعني شيئاً أمام انتظارنا له لأيام طويلة.

الأولى:            ألم تملّ؟!

الثاني:             أنا مثلكم مللت، ولكني أتشبث ببعض الأمل.

الأولى:            الأمل مفقود، صدقني، مفقود.

الخامسة:         إننا من ننتظر ميتاً سيحيا. لا يبدو أنه سياتي.

الرابع:             (يمسك بيد الثاني، ويشير إلى الأمام) لا تتشبث بمجيئه، هناك أمل جديد، وهذا الأمل يستحق التضحية.

الثاني:             (يسحب يده بغضب) لا تمسك يدي.

الرابع:             حتى في هذه اللحظة لا تنسى.

الثاني:             النسيان صعب.

الرابع:             أنا سأنسى، لأن لا مفر لك مني، ولا مفر لي منك، سيجمعنا هذا القارب، ويأخذنا إلى هناك.

الثاني:             أنا خائف من ألا يأخذنا، يقولون أن البحر غدار.

الأولى:            لكننا لم نجربه، قد يكون مظلوماً، ربما افترى عليه أعداؤه.

الرابع:             لم يحدث لوالدي أي مكروه في البحر منذ عمل صياداً.

الثاني:             (باستسلام) يعني لن ننتظر؟.

الثالث:            لا، لن ننتظره، أنا وهو (يشير للرابع) سنجهز القارب وسنبحر بعد قليل.

الخامسة:         هل أساعدكما؟.

الرابع:             فقط اهتمي بنفسك. ولا تستعجلي الولادة. لا أحد منا يفهم كيف يكون التوليد.

الخامسة:         لن ألد في مكان غير هناك.

يتجهان للقارب ويبدءان بتجهيزه وفحصه بشكل جيد.. يقترب الثاني من الأولى

الثاني:             الليل على الأبواب، ولا أظن أن الإبحار في هذا الظلام فكرة حسنة، لم لا ننتظر حتى الصباح؟.

الأولى:            بل الإبحار بالليل أفضل، لن يكشفنا رجال خفر السواحل، إذا قبضوا علينا سيودعوننا السجن.

الخامسة:         السجن. اعوذ بالله. وهل يسجنون الحوامل؟

الأولى:            نعم. ويضاعفون عليها الحكم.

الخامسة:         ولماذا؟

الأولى:            مدة لها ومدة لطفلها.

تضحكان وسط قلق الثاني

الثاني:             لا، لا أريد العودة للسجن. ألن يكشفوننا في الليل أيضا؟.

الأولى:            لن نشعل أي ضوء، لن ينتبهوا لنا، و لن نصبح إلا ونحن خارج مياهنا الإقليمية، يعني لا سلطة لبلدنا علينا.

الثاني:             ورجال الشرطة هناك، سيقبضون علينا.

الأولى:            إذا ما تم القبض علينا سنطلب لجوءاً. لا تخف، الأمر ليس بهذه الصعوبة.

الثاني:             أنت تستسهلين الأمور.

الأولى:            لأنها سهلة.

تتركهما وتتجه ناحية الثالث والرابع المنهمكين في تجهيز القارب

الأولى:            كيف هو الوضع معكما؟.

الثالث:            لقد جهز للإبحار أيها الربان.

يضحكون..

الرابع:             هيا الآن، ليأتي كل واحد منكم بأغراضه ويضعها في القارب، أنا سأبحث عن طعام يكفينا للوصول إلى الضفة الأخرى.

يخرج الثالث من المسرح.. وينشغل الأربعة بوضع الحقائب والأغراض في القارب..

 

إظلام

 المشهد الثالث

 

في عرض البحر، القارب يبحر ليلاً، الخمسة يقعدون مستندين إلى حقائبهم.صمت يلف المكان سوى صوت الموج الخفيف الذي يضرب جسد القارب. يقف الرابع ويحدق في البحر..

الرابع:             لا أرى يابسة قريبة، منذ ساعات ونحن نبحر.

الأولى:            (تقف وتنظر إلى كل الاتجاهات) لا بد أن الموج سيأخذنا إلى مكان ما.

الثاني:             ( يبدو متعباً) أو لن يأخذنا إلى أي مكان.

الخامسة:                   سيغمى علي من التعب. متى سنصل؟!

الثالث:            لا تخافي، سنصل قريباً إلى اليابسة.

الثاني:             وهل تتبينون الاتجاهات؟

الرابع:             من الصعب تبينها، لكن أظن أننا في الاتجاه الصحيح.

الثاني:             وما الذي يدفعك على هذا الظن؟

الرابع:             لا أدري، ولكن إحساسي يقول أننا في الاتجاه الصحيح.

الخامسة:          (للرابع) يعني متى سنصل؟.

الرابع:             كلما أشعره أننا سنصل. لكن لا أدري متى.

الثاني:             وهل سنعتمد على روحانياتك؟، لا بد أنها ستقودنا إلى الهلاك.

الأولى:            وأنا ايضاً أشعر أننا سنصل.

الثاني:             (بسخرية) أكملتها الأخت.

الثالث:            الأمل هو ما يشعرنا بأننا سنصل، وكنت أكثرنا تعلقاً بهذا الأمل.

الثاني:             كان أملي في مجيئه، وليس في وصولنا وحدنا دون دليل، دون أن يعرف أي منا كيف يبحر.

الثالث:            ولا أظن أن أحداً منا يعرف كيف يعود، ولا كيف نبقى في مكاننا. كان خيارنا الوحيد أن نبحر بهذا القارب.

الرابع:             بعدها ليحدث ما يحدث.

الخامسة:         كان وجودنا في انتظار مجهول. لا نعرف هل سيأتي أم لا. وكان القارب وسيلتنا الوحيدة.

الأولى:            صحيح، فقدنا كل الخيارات عدا هذا الخيار. (تمازح الثاني) لكن يبدو يا صديقي أن دوار البحر فعل فعلته فيك.

الثاني:             لو كنت أعلم بمدى هذا الغثيان الذي انتابني لما أبحرت معكم.

الثالث:            وما الذي ستفعله هناك.

الثاني:             كنت سأنتظره.

الرابع:             البحر هو الطريق إلى الضفة الأخرى، دوار البحر سيصيبك لا محالة.

الخامسة:         هل تشعرون الآن بما تعانيه النساء من غثيان مزمن طوال فترة الحمل. هل تعرفون الآن معنى الوحم؟. (بسعادة) إنها العدالة .. هناك من أصيب بالوحم غيري.

الأولى:            (للثاني) ستعتاد، وستنسى إذا وصلنا إلى هناك.

الثاني:             أنا ابن صحراء، ولو كان الرمل هو ما يفصلنا عن الضفة الأخرى، لكنت دليلكم إليها. في الصحراء لا نشعر بدوار، ولا بحاجة لإفراغ ما في بطوننا كما يفعل بحركم، الصحراء لا تغدر. آه، كم اشتقت للرمل ولسكينة الصحراء.

صمت للحظات

الأولى:            (للثاني) منذ عرفتك و في رأسي سؤال.

الثاني:             عني؟.

الأولى:            نعم، عنك.

الثاني:             إسألي، أنا أحتاج لأن أثرثر حتى أنسى هذا الغثيان.

الأولى:            هل أحببت؟، (بارتباك) أعني، هل وقعت في الحب؟

الثاني:             ولمَ هذا السؤال؟

الأولى:            قسوتك، كنت أتساءل بيني وبين نفسي، كيف يمكن لهذا الرجل أن يحب فتاة؟، كيف يمكن له يتعامل مع أنثى؟.

الخامسة:         كأنك نسيتي كيف استقبلنا منذ أول يوم. تجهم، ونفور، كأننا حشرات نجسة.

الرابع:             صحيح، هل أحببت؟.

الثاني:             (يضحك بألم) لي قلب مثلكم.

يصمت الثاني للحظات وعلى وجهه يبدو الحزن

الأولى:            هل أزعجك سؤالي؟، أنا لم أكن أقصد إيذاءك.

الثاني:             لا بأس، ربما أحتاج لأن أتكلم، ربما الكلام يريحني.

الرابع:             هل شغلت فتاة هذا القلب؟.

الثاني:             (بحرقة) بل شغلت كياني كله.

الثالث:            أوووه.. إنك تقولها بحرقة؟.

الرابع:             لم تخبرنا من تكون تلك الفتاة التي تمكنت منك.

الثاني:             إنها أجمل فتيات القبيلة، وأرقهن، وأكثرهن أنوثة.

الأولى:            وهل كانت تحبك؟.

الثاني:             مثلما أحببتها.كنا نبني أحلاماً برمل الصحراء، نرسم على الرمل كيف سيكون مستقبلنا، كيف سيجمعنا بيت واحد، كنت وعدتها بأني سأكتب فيها الشعر حتى آخر نفس فيّ، وعدتها أني سأكون لها، ووعدتني بأن أحداً لن يأخذها مني. كانت قصائد العشق هي السقف الذي يظللنا، وكانت هي ملكة أحلامي، لم تغب صورتها عني أبداً، في الصحو وفي الغياب.

الثالث:            ألم تتزوجها؟

الثاني:             (يبكي) بل افترقنا، سياط القبيلة لم ترحم عاشقين بذلا عمرهما للحظة لقاء، ملعونة حرفة والدي الذي منعتني من الارتباط بحبيبتي، أنا ابن حرفي وهي ابنة سيد القبيلة.

الرابع:             إنه الفارق الاجتماعي الملعون.

الثاني:             (يكمل) حين علموا بقصتنا، حبسوها في البيت وما عادت تخرج، صرت كالملهوف أتردد على بيتها كل ليلة علي ألمح وجهها أو أرى ظلها حتى، ولكن دون فائدة. بيتها صار مقصدي الليلي، عند بابهم أغفو، أحسوا أن الفضيحة ستلاحقهم بسببي،  ضيقوا على والدي كي يمنعني منها حتى لا تتفشى الفضيحة. حبسني والدي في البيت، حتى سمعت أنهم زوجوها لآخر.

الخامسة:         يا الله، مسكين أنت. أكمل.

الثاني:             لم تحتمل أن تحيا دوني فماتت من الوجد، ماتت من داء الحب، صرت كالمجنون، أطلقوني وبقيت أدور في الطرقات أنادي باسمها، والعنهم وألعن أبي وأباها، خافوا مني وطردوني من القبيلة كالمجذوم.

الأولى:            (تتنهد).. يا لقلب العاشق.

الثالث:            وهو ما غيرك؟، من عاشق محب إلى عضو في تنظيم مسلح.

الرابع:             كيف التحقت بالتنظيم؟!

الثاني:             وجدني أصدقاء انتشلوني من ضياعي، ومن دوراني على القبائل وأنا أحكي لهم حكاية عاشقين، الأصدقاء ارجعوا لي توازني، أبعدوا شبح حبيبتي عن رأسي، هدءوا من روعي وخوفي، علموني كيف أفتش عن إنسانيتي في التزامي بالدين، التزمت بنسك ديني، ولكنهم كانوا يرون فيّ فرصة لتعليمي وجهاً جديداً للحياة، أدخلوا في رأسي فكرة أن الدنيا مليئة بالفاسدين، ولا يمكنها أن تتطهر من هذا الفساد إلا بالرصاص.

الأولى:            وترفض أن أسميهم مجرمين.

الثالث:            لقد غسلوا عقلك.

الثاني:             لم أدرك أنهم غسلوا عقلي إلا حين اكتشفت أن بندقيتي كانت مصوبة في وجه أبي. لكن فات الأوان، صرت في نظره إرهابياً، مجرماً، وهو من ساعد الشرطة للقبض علي، فصار السجن مصيري.

صمت، يمسح الثاني دموعه عن وجهه وعينيه

الرابع:             وما الذي تبحث عنه في الضفة الأخرى؟

الثاني:             حياة جديدة، تنسيني الماضي.

الخامسة:         لكنك كنت تقول أنك تغادر لأجل الجهاد.

الثاني:             إنها لغة اعتدتها ولا بد أن أتخلص منها (يضحك) الطريق إلى الجهاد لا يمر من هنا. لقد اكتشفت الخديعة، سأغادر إلى هناك علي أجد نفسي من جديد. يعني هروب.

الرابع:             ونظرتك لي؟، هل تعلمتها منهم؟.

الثاني:             بل هي نتاج تربيتي، وهم غذوها أكثر.

الرابع:             أنا أيضاً تربيت على الخوف منكم، تربيت على فكرة أنكم أعداء.

الأولى:            لمَ لم تجعلوا من اختلافكم تشابه؟.

الرابع:             هو إرث، من الصعب التخلص منه، لكن دوري ودوره، ومن سيأتي بعدنا. لا بد أن نتشابه.

الثالث:            كلنا متشابهون رغم اختلافنا، ولكن لا يجب أن يتحول الاختلاف إلى عداء.

الثاني:             هل نستطيع؟.

الأولى:            إذا كانت هناك إرادة.

الثاني:             (يمد يده للرابع ليصافحه) لنبدأها الآن.

يمد الرابع يده، تصفق الخامسة فرحاً، فجأة يعلو صوت الأمواج وهي تضرب القارب، يرتفع القارب ويهبط بقوة، الرياح تشتد ويسمع هديرها..

الخامسة:                   ما هذا؟، ما الذي يحدث؟

الرابع:             ربما تكون عاصفة.

الثالث:            البحر كان هادئاً.

الأولى:                     ومن يضمن هذا البحر؟.

الثاني:             و ما الذي سنفعله.

الرابع:             تشبثوا بالقارب جيداً، المهم ألا يقع أحد في البحر..

إظلام، وأصوات عاصفة رعدية، وبرق، وأمواج تتلاطم. أصوات الأربعة تتداخل مع بعضها

الأولى:           تمسكوا جيداً..

الثالث:            تشبثوا بخشب القارب، لا تفلت يد أي واحد منكم.

الثاني:             الحقائب تضيق علينا المكان.

الرابع:             يجب أن نتخلص من بعضها.

الأولى:           لكن كل أغراضنا في الحقائب.

الثالث:           إننا في ورطة يجب أن نفسح المكان.

الخامسة:                   حقيبتي فيها ملابس طفلي. لن أرميها.

الرابع:            أنا سأرمي حقيبتي.. سأفسح بعض المكان (صوت الحقيبة ترتطم في البحر).

الثاني:             وأنا سأرميها..

الأولى:           وأنا لن أرمي أياً من حقائبي.

الثالث:            حقائبك تثقل على القارب، ارمي واحدة من الثلاث حقائب.. حياتنا في خطر.

الأولى:           لن أرمي شيئاً.. أتسمعون؟!.

الثالث:            سترمينها، حياتنا أهم من حقائبك.

الأولى:           لكن فيها كتبي أوراقي، مذكراتي.

الرابع:             نحن عرضة للموت وأنتِ تتحدثين عن مذكراتك وكتبك.

الثاني:             إذا لم ترميها أنا سأرمي كل حقائبك.

الأولى:           لن يمس حقائبي احد.

الثالث:            أنا سأرميها، هه..(يسمع صوت حقائب ترتطم بالبحر)..

الأولى:           (يصرخ) لا، لا تفعلها..

الرابع:             (للخامسة) وأنتِ، هل سترمين حقيبتك أم نموت جميعاً.

الخامسة:                   لا عليك .. سأرميها.

صوت حقيبة ترتكم بسطح البحر. تزداد الأصوات، العاصفة تضرب بشدة 

إظلام

 

المشهد الرابع

في عرض البحر، القارب يبحر ليلاً، الخمسة مغمى عليهم، ملابسهم مبتلة، صمت يلف المكان سوى صوت الموج الخفيف الذي يضرب جسد القارب، يصحو الثاني، ينظر حوله بدهشة، يقعد على الأرض، يتقرفص، يمسح وجهه من بقايا الماء، يرتجف..

الثاني:             أنا حي، الحمد لله، لازلت حياً.. (يراقب الأربعة).

تصحو الأولى وبعدها الرابع.يقعدان على الأرض ويبدو عليهما الإنهاك.

الأولى:            أنا حية أيضاً، لم نمت بعد..

الرابع:             جسدي يؤلمني.

تصحو الخامسة، تبدو متعبة. تمسك خاصرتها وتتألم.

الخامسة:                   هل ما زلنا أحياء؟، (تتحسس بطنها) الحمد لله. لا زال طفلي حياً.

الثاني:             (يشير للثالث) هل ما زال حياً؟، لم يصحُ بعد.

تزحف الأولى جهة الثالث، تصل إليه، تضع رأسها على صدره

الأولى:            إنه يتنفس، لم يمت بعد (يهز الثالث) استيقظ، لقد انتهت العاصفة..

يتحرك الثالث، يصحو مفزوعاً..

الثالث:            ما الذي حدث؟، أين أنا؟.

الأولى:            أنت على القارب، لقد مرت العاصفة بسلام.

الثالث يتنفس بسرعة، يمسح رأسه ووجهه

الثالث:            يعني أننا لازلنا أحياءً؟!.

الرابع:             كلنا أحياء، لم يصب أحدنا بسوء..

الثاني:             ( ينظر حوله) لكن لا نعرف إلى أين أخذتنا الأمواج.

يقفون، ويأخذ كل واحد منهم مكانه وسط بقعة ضوء

الرابع:             لا أثر لأي ضوء حتى لو كان بعيداً.

الثالث:            يبدو أننا ضعنا.

الثاني:             (بقلق) ضعنا؟، ما الذي تقوله؟

الثالث:            ضعنا، ألم تسمع؟!، ضعنا في هذا البحر الكبير.

الخامسة:                   يعني، لن نصل إلى هناك؟

الرابع:             ربما تمر سفينة وتنتشلنا من هنا.

الثاني:             ( بيأس) وربما لا تمر.

الأولى:            وهل يعني أننا ضعنا؟

الثالث:            وضاعت كل أحلامنا معنا.

الأولى:            العاصفة اللعينة أخذتنا إلى مكان بعيد عن الضفة الأخرى.

الرابع:             ما هذه العاصفة الهوجاء، كان البحر يزمجر، كنت أرى أنيابه تنهش في أجسادنا.

الثالث:            كنا سنصل، لولا هذه العاصفة.

الثاني:             وهل كنت تعرف أين هي الضفة الأخرى؟، الأمر سيان.

الرابع:             وما الذي نفعله الآن، أنا تعبت ولا طاقة لي على الحركة.

الخامسة:                   أنا إمرأة حامل، واحتاج إلى غذاء.

الثاني:             لا أدري من وضع في رأسك فكرة أن تضعي هناك. فكرة مجنونة بامتياز.

الخامسة:                   لا تعاتبني الآن على قرار اتخذته. المهم أن لا نموت عطشاً و جوعاً.

الثالث:            لقد فقدنا الطعام والماء، إذا لم نمت من الغرق سنموت من الجوع والعطش، حلقي جاف .. أريد ماءً.

الثاني:             أريد أن أعود إلى بيتي، سأتحمل قسوة النظرات والحياة بدون حبيبتي.. لا أريد أن أموت غرقاً.

الرابع:             لو أننا أطعناك وانتظرنا، لكان أفضل.

الثاني:             قلت لكم أن ننتظره، سيأتي، سيأتي.

الثالث:            لكنه لم يأت، ولن يأتي، هو من سبب لنا في هذه المشكلة.

الخامسة:         كيف لي أن أصدقه. رسم لي حلم الهجرة على طريق من ورد. ولكن لم نحصد سوى الشوك.

الثاني:             لو انتظرناه، كان سيأتي.

الأولى:            لن يأتي، لن يأتي، لن يأتي. ألا تفهم؟، إنه مجرد وهم.

الخامسة:                   نعم. مجرد وهم. سرق أحلامنا ومضى.

الأولى:            بدأت لا أصدق إن كنا قابلناه أم لا.

صمت يلف المكان، يتقرفص كل واحدٍ منهم في زاوية. إظلام، وبقعة ضوء مركزة على الأولى

الأولى:            هل سأموت بعد أن خسرت كل شيء، حتى آخر خيوط ذاكرتي بلعها البحر، أوراقي، كتبي، الصحف التي كتبت عن مسرحياتي، صوري، كلها جمعتها في حقيبة، وانتهت إلى قاع البحر، هل سأكون ضحية حلم أكبر مني؟!، يا الله، أنا لم أحلم سوى بخشبة تضم عشقي للمسرح، خشبة تضخ الحياة في روحي، أنا محتاجة للمسرح بقدر حاجتي للهواء. أيكون الحلم عصياً على التحقيق؟!، إنه حلم بسيط. كنت أحتمل الفقر لأجله، وأحتمل العناكب السوداء التي كانت تترصد مني الخطيئة، واحتمل إيقاف مسرحياتي، حتى باتت العناكب تستوطن داخلي وصرت أحسب على الممثلين كل كلمة، أراقبهم في كل خطوة وفي كل حركة، كل شيء صار ممنوعاً، إفعل، لا تفعل، إفعل، لا تفعل. لم نمل، لم نيأس، لأن المسرح كان جنتنا، ولكن التحريض ضدنا والتهديد بالقتل جعل الممثلين يرون في المسرح منصة إعدام، هجروه، نزعوا عنهم عشقه، وبت وحدي أفتح الستائر وأغلقها، وحدي على خشبة عريضة.. لملمت كل تفاصيلي في حقائب رغبة في الهجرة. في الضفة الأخرى، لا عناكب هناك، لا أنصال تقطع جسد النص، هناك حيث المسرح حياة كان حلمي، هناك رسمت على ورق خطة حياة جديدة.. لكن يبدو أن الدنيا تضيق بأحلامنا وتسلمها لهذا البحر الشاسع، (بأداء مسرحي متكلف) رأفة بنا يا بحر، رأفة بأحلامنا، رأفة بنا أيها الشاسع.

إظلام بقعة الضوء على الأولى، وإنارتها على الثالث

الثالث:            لم تكن لي أحلام أكبر من منزل صغير يسعني مع زوجة وأطفال، صحيح أن الراتب لم يكن يكفي لتحقيق هذا الحلم، لكني أعيش بكثير من الرضا، أدخر مما بقي منه لهذا الحلم، لم  يكن عندي مشكلة من أن يتأخر سنة سنتين، المهم سيفي ما أدخره بما أحتاجه لأتزوج. كانت حياتي تمر بهدوء، وبروتينية شديدة تشبه الروتين الذي نعيشه في العمل، ولكن فجأة أصابت الناس حمى جديدة، صار الجميع يضاربون في سوق الأسهم، فتحت السوق للجميع، لمن يفهم ولمن لا يفهم، كانت الأرباح خيالية، وصار الناس لا يفهمون من الألوان سوى الأخضر، كانوا يتسمرون ساعات أمام شاشات التلفزيون أو على شاشة الكمبيوتر، لم أكن منهم، لكن صرت منهم، اقنعني زملائي بأن الوسيلة الأفضل لتحقيق أحلامي الصغيرة هي دخول السوق،  سأبني البيت، وأتزوج، وأفتح لي مشروعاً صغيراً يعينني على الحياة، دخلت بما ادخرته من مال، وكان الأخضر هو العنوان، ارتفعت أرباحي، وفي غضون شهور وجدت نفسي في مصاف الأغنياء، اقترضت المال من البنك لأزيد من رأس مالي، نصحني البعض بأن أنسحب، لكن الأرباح كانت مغرية، مثيرة على البقاء، كل شيء صارت متاحاً لي، سيارة جديدة، ملابس لم أكن أحلم بإرتدائها، كل شيء. (صمت) وحدثت الانتكاسة، تحولت الحياة إلى اللون الأحمر، أحمر، أحمر، أحمر، وخسرت كل شيء، كل شيء راح في طوفان الأحمر، أفلست، حتى الراتب صار ملكاً للبنك، والقرض البنكي لن ينتهي قبل 10 سنوات، كيف يمكنني أن أعيش وأنا سأكون عرضة للسجن. لذا فكرت في الهروب، هناك سأبني حياة جديدة دون هذين اللونين، أتمنى أن أكتشف ألواناً جديدة، ألواناً لا علاقة لها بالخسارة والربح. هل سيحملنا القارب إلى هناك؟، قولوا لي، هل سيحملنا إلى هناك؟!. لا أريد أن أموت، تكفيني الخسارات، تكفي.

إظلام بقعة الضوء على الثالث، وإنارتها على الخامسة.

الخامسة:         إنه طفلي الأول، من رجل لم أحبه، ولم يحبني، رجل يكبرني بسنوات، رجل لم آلفه رغم السنوات الأربع التي عشتها معه، لم يملك من مواصفات فارس أحلام البنات المراهقات شيء، لا وسامة، لا أخلاق، ولا مال حتى. والدي كان يقول: رجل ناضج خير من شاب غرّ. رموني في حضن رجل لا يعرف كيف يحب. وكيف يرأف بفتاة تملك حباً للحياة باتساع هذا العالم. كنت أحلم بالهجرة إلى مدن الأحلام، هناك الحياة أجمل، لم يسعفني حظي للهجرة. ولكن بعد أن توفي رجلي تاركاً ما ينبض في جوفي، هربت دون أن أنهي عدتي، هربت و الأمكنة لازالت تتشح بالأسود. هربت وحلمي يسبقني، ربما يكون لطفلي حياة لا تشبه حياة أمه، الأطفال هناك لهم شأن. ولهم حقوق. لو ولد في ذات المكان، لعاش يتيماً ومشرداً.. لا أريد أن أعود، أريد أن ألد هناك، أريد أن يتنفس طفلي هواءً نقياً.. لا أريد لحلمي أن يتبدد.

إظلام بقعة الضوء على الخامسة، وإنارتها على الرابع.

الرابع:             كان يا ما كان، كان هناك شخص هو أنا، ولد وهو مختلف، وتربى على هذا الاختلاف، واقتنع باختلافه. لكنهم لم يقتنعوا به، كان هذا الاختلاف ذريعة التهميش، وذريعة للبطالة التي يعيشها، فإما أن يكون صياد سمك مثل والده وإلا أن يتنازل عن اختلافه. لم يكن والده يريده نسخة منه، كان يريد لهذا الولد الذي بنى عليه الآمال أن يكون طبيباً، مهندساً، أو أي مهنة تنسيه الشقاء الذي عاشه، لكن هذا الولد خيب كل الآمال، لم يكن هو من خيبها، هو كان مجتهداً، حصل على علامات تؤهله لدراسة الطب، فلم يجد لها سبيلاً، و لم يجد لدراسة الهندسة من سبيل أيضاً، فكان مصيره أن يكون عاطلاً عن العمل بدرجة جامعية ولكن بتخصص لم يحبه أبداً، لأنه لا يشبهه ولأن لا وظائف لهذا التخصص، عمل هذا الشخص بائع سمك، كان يبيع السمك الذي يصيده والده، لكنه فشل أيضاً، لأنهم لم يكونوا يشترون منه السمك. أصابته لعنة الكره، كره كل شيء، حتى كره ذاته، وكره أبيه، ووجد الهجرة وسيلة ليجد نفسه مرة أخرى. يقولون أن هناك لا يهتمون بالاختلافات، لا يضعونها على قائمة الأهم. يا رب، أنا لم أكن أنتظر أن أموت غرقاً وأنا ابن الصياد، لا أريد أن أموت، لا أريد.. (يغلق أذنيه بقوة).

الأولى:            لا أريد أن أموت.

الثاني:             لا أريد أن أموت.

الثالث:            لا أريد أن أموت.

الرابع:             لا أريد أن أموت.

الخامسة:                   لا أريد أن أموت.

إظلام تام، تعود أصوات العاصفة والرعد، والبرق، وتكسر الأمواج على جسد القارب، صراخ يملأ المكان.. بعدها يعم الهدوء، على شاشة بروجيكتور، تعرض أخبار تلفزيونية أو قصاصات صحف تحكي عن تعدد غرق المهاجرين غير الشرعيين في البحر، وزيادة عدد الراغبين في الهجرة..

إظلام تام

النهاية

24 مايو 2009م.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: