رغم تسيد الصورة في عالم الميديا والتوثيق، إلا أنني أظن أن هذا التسيد لم يلغ بعد الحاجة للرصد الكتابي، لأن الكتابة أقدر على رصد التفاصيل مهما كانت قدرة الصورة على اختزال المقالات كما يقال، فالصورة وحدها لا تكفي فهي قابلة للتأويل والفهم المتباين. عمر الكتابة طويل ولاتزال قادرة على البقاء ما دامت الحاجة إليها باقية. والدليل أن الكتب على مستوى العالم ما زالت تصدر، وكل يوم نقرأ عن إصدارات جديدة في مجالات الكتابة المختلفة ومنها كتب التاريخ، والكتب التي ترصد بالتحليل والنقد والتسجيل لتاريخنا المعاصر. فما يدور في هذا العالم الآن، أرى أن الكتابة كفيلة بتسجيله وتوثيقه وحفظه في كتب حتى وإن كانت كتباً إلكترونية، وهي الأكثر قدرة على الغوص في التفاصيل ورصدها. فرغم وجود الصورة فهي تحتاج لكتابة تعزز ما تنقله الصورة، رغم ما يشوب أي عملية رصد أياً يكن وسيطها من غياب الحياد، وشك في صدق المعلومة والثقة فيها.
وفي مسألة الصدق، أظن أن الأمر سيان بين الكتابة والتسجيل البصري عبر الأفلام الوثائقية، فكما يقال فإن (التاريخ يكتبه المنتصرون). ففي الماضي كان التاريخ يكتبه المتمكن من امتلاك قوة الكلمة، وامتلاك الأقلام التي تكتب ما يملى عليها، والبسطاء عادة لا يمتلكونها، ولكن يمتلكها أصحاب النفوذ والأقوياء. وفي الحروب يمتلكها المنتصرون، فتضيع الكثير من التفاصيل الحقيقية ويستعاض عنها بخيالات المنتصر، لا بحقيقة ما حدث. وهذا الأمر يصدق أيضاً على الأفلام الوثائقية التي تمتلك قوتها الدول الكبرى، الدول صانعة الأفلام وصانعة الميديا في هذا الزمن، فمن أين يأتي الصدق إذاً؟، فحتى هذه الأفلام خاضعة لرغبات هذه الدول ولسياساتها ولأجنداتها في فرض رؤاها على العالم. فكل الأفلام الوثائقية التي أنتجت منذ بداية السينما كانت خاضعة لرأي المخرج أو الجهة المنتجة ولم يخضع أكثرها لمبدأ الحياد، حتى تلك الأفلام الوثائقية المستقلة أو تلك التي ينتجها هواة، تعبر أيضاً عن رأي أصحابها، ولا تعتمد الصدق والحياد. فمثلاً كثير مما نقله البعض في أماكن أحداث بهواتفهم الجوالة كان يعبر عن وجهة نظر أصحاب الفيديوهات، وقد تجانب الحقيقة وهذا ما حدث بعد العام 2011 في مناطق الصراعات في العالم العربي، غاب الحياد وبقيت وجهات النظر.
وهنا أنا لست ضد التقنية الحديثة أبداً، بل أجدها نقلت عملية الرصد وسهّلتها وبسطتها أيضاً، فاختراع الكاميرا كان فتحاً حقيقياً في عملية الرصد، فمثلاً وصلتنا صور من الحروب كالحرب العالمية الأولى والثانية، قد لا تصل لكل العالم لولا اختراع الكاميرا، وكذلك السينما التي نقلت لنا ما كان متوقفاً على الخيال الذي يصنعه النقل المكتوب. وأظن أن اختراع الحاسب الآلي وبرامجه المتعددة شكّل نقلة نوعية لكل المجالات على هذه الأرض، وبخاصة في مجال التأريخ. فالتقنية الحديثة يمكنها وضع كتب ووثائق مهما كان عمرها في متناول الجميع، كما فعلت منظمة أرشيف الإنترنت التي تعمل على أرشفة الكتب والمخطوطات والمواد البصرية من فيديوهات وصور، فهذه المنظمة استفادت من التقنية الحديثة لأرشفة مئات الآلاف من المواد ووضعها أمام المستخدم العادي. ومن مصاديق استخدام التقنية الحديثة في عملية التوثيق، عملية إعادة إنتاج بعض المفاصل التاريخية المكتوبة وتحويلها لمواد بصرية عبر تقنية الـ 3D، كما فعلت بعض المتاحف العالمية مثل (متحف الفنون والمهن) في باريس الذي استضاف معرض (الغوص في التراث) في تجسيد التراث الفرعوني بتقنية الثلاثي الأبعاد معتمدين على ما وصلهم من وثائق ومخطوطات.
التقنية الحديثة قادرة عبر اختراعها الفريد الحاسب الآلي على تقديم وتوثيق شامل للتاريخ الإنساني عبر مزج المسموع والمرئي والنص المكتوب، خصوصاً مع تطور البرامج الخاصة وقدرتها على محاكاة الواقع.
- نشر في المجلة العربية- العدد (480) | محرم 1438 هـ- أكتوبر 2016 م
اترك تعليقًا