مقدمة تاريخية
منذ الوعد المشؤوم الذي أصدرته الحكومة البريطانية العام 1917م، والمعروف بوعد بلفور والذي توعد فيه وزير خارجيتها جيمس أرثر بلفور بأن تقوم حكومة جلالة الملكة بالعمل بأفضل ما يمكنها في سبيل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. ومنذ إنشاء هذا الوطن الذي هيأه قرار الأمم المتحدة التقسيمي بعد الانسحاب البريطاني من فلسطين، وجدت الدول العربية نفسها أمام إختبار وطني وقومي حقيقي، إضافة لكونه إختباراً إسلامياً، فالاستعمار البريطاني ومن بعده إنتدابها ومن ثم قيام الكيان الصهويني على أراضي فلسطين بعد نكبة 1948م، مثل انتهاكاً صارخاً لقدسية القدس التي تعتبر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؛ إذ تمتلك إلى جنب بعدها القومي بعداً دينياً وروحياً.
ومنذ خسارة هذا الرمز الروحي وجد الخليجيون، مثلهم مثل بقية العرب، أنفسهم ملزمين بالوقوف مع فلسطين، في أزماتها وكوارثها وخساراتها. فهذه السعودية وهي صاحبة الثقل الجغرافي والديني في المنطقة والأقدم في تشكل الدولة النظامية والتي تأسست في العام 1932، قد رفض ملكها عبدالعزيز آل سعود “منح مركز خاص لبريطانيا في فلسطين عام 1926م-أي قبل اكتمال توحيد مناطق الجزيرة العربية تحت مسمى المملكة العربيةالسعودية-، وعندما قام الصهاينة بالاعتداء على المصلين في صلاة الجمعة في المسجد الأقصى عام 1929م أبرق لبريطانيا مطالباً بمعاقبة الآثمين ومنع تكرار مثل هذا الفعل”(1)، إضافة لمشاركتها بعض الدول العربية الأخرى في أول الحروب العربية مع كيان إسرائيل المغتصب 1948، بإرسال قوات سعودية للمشاركة في هذه الحرب التي أنتهت إلى نكبة.
الكويت في هذا التاريخ كانت قد تأسست منذ القرن السابع عشر، ولكنها كانت تحت الاستعمار البريطاني حتى العام 1961م تاريخ استقلالها، ولكن فلسطين، ورغم عدم قيام دولة نظامية مستقلة، كانت حاضرة بقضيتها في الحراك الاجتماعي والسياسي، فحركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور أحمد الخطيب في خمسينيات القرن الماضي كانت ردة فعل على الاحتلال الصهيوني لفلسطين. ويذكر لنا التاريخ دور الكويت في تأسيس منظمة فتح والتي احتضنت اجتماعها التأسيسي في نهاية 1957م، هذا غير الدعم المالي الذي وهبته اللجنة الشعبية لجمع التبرعات التي أسست في 1954م، لفلسطين الداخل وللاجئين الذين تفرقوا في البلاد.
وقد انتهى الاستعمار البريطاني لدول الخليج العربي بنهاية عام 1971م، بعد تنفيذ بريطانيا سياستها الخارجية القاضية بالإنسحاب من هذه الدول وإلغاء كافة المعاهدات والاتفاقات التي كانت تربطها بزعامات هذه الدول، وبذلك تحصلت على استقلالها، هذا الاستقلال كان إدارياً ولا يعني أن شعوب هذه الدول بمجملها و زعمائها كانوا بمنأى عن القضية الفلسطينية إبان استعمارها البريطاني، إذ كانوا مدفوعين برمزية القدس، ثم بالحس العروبي بعد انتشار المد القومي الذي لم تخلُ دولة عربية من تأثيراته. فالبحرين وهي أصغر هذه الدول تؤكد وضمن أهداف سياستها الخارجية على “دعم القضايا العادلة للأمة العربية والاسلامية وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس الشريف” (2)، وهي وجهة النظر ذاتها التي تتبناها الدول الخليجية الأخرى. هذا على الصعيد الرسمي الذي التزم بقرارت الأمم المتحدة وقرارت جامعة الدول العربية، أما على الصعيد الشعبي، فإن البحرانيين التزموا بدعم خيار المقاومة، فتسربت هذه الثقافة إلى إبداعاتهم الأدبية و الفنية، فالشعر البحريني استحضر هذه القضية وتناولها، فالرائد البحريني الراحل إبراهيم العريض كتب ملحمته الشعرية “أرض الشهداء” 1951م، والتي جاء في مستهلها :
“يا فلسطينُ وما كنت سوى/ بيعـةَ الأرضِ على كفِّ السماءِ/ اشْهَدِي.. أنّ بياني قد روى/ فيكِ ما يُرضي قلوبَ الشهداءِ” (3)
والبحرين تبدو أكثر الدول الخليجية تضامناً مع فلسطين في محنتها، وأكثرها تضاداً مع المشروع الإسرائيلي، ويعود ذلك للحس الوقومي المبكر عند البحرانيين، فالتاريخ يؤرخ لأهل البحرين موقفاً قد يكون فيه من ردة الفعل الكثير الذي يمكن أن يؤخذ عليه في سياق معارضتهم لقيام الكيان الغاصب، فالعام 1948م شهد أحداثاً عنفية أدت إلى إتلاف و تكسير المعبد اليهودي و بعض مساكن و محلات الطائفة اليهودية في البحرين. وتذكر بعض المصادر أن البحرين كانت مرتكز اقتراح للطبيب اليهودي روتشين بعثه إلى الحكومة البريطانية مفاده “أن تقوم الحكومة البريطانية بالتعاون مع حليفتيها فرنسا وروسيا بتدريب وتسليح جيش يهودي من العناصر الشابة ليهود أوربا الشرقية قوامه 120 الفاً يوضع تحت قيادته، ويتخذ من البحرين قاعدة تنطلق إلى الأحساء (التركية) آنذاك لاحتلالها وإقامة دولة يهودية” في الخليج. (4).
فلسطين وقضيتها كانت موضوعاً محورياً في القصيدة الخليجية، إذ لم يتخل الشعراء أبداً عن هذه القضية وتبعاتها، فكانوا يتصدون للإحتلال بأبياتهم الشعرية، ويساندون هذه القضية بأحرفهم، ولا تستثنى أي مرحلة شعرية في المنطقة منذ النكبة وحتى الآن من قصائد تتناول هذه القضية.
والخليجيون ورغم ما عرف عنهم من طبيعة بدوية، أخضعت حياتهم وتفكيرهم لهذه البيئة، إلا أن ثمة حواضر امتلكت وعيها السياسي، و صارت جاهزة لتلقي الأيديولوجيات وتبنيها والإٌيمان بها، فكيف بقضية بقدر أهمية القضية الفلسطينية. فالخليجيون، وخاصة أولئك الذين ربطهم البحر، كانوا عرضة لأطماع إستعمارية، منذ البرتغال، إلى بريطانيا مروراً بهولندا التي احتلت مناطق الخليج و سيطرت على حركة التجارة منذ العام 1507م (5)، مما خلق عندهم حالة من الرفض تجاه الفكر التوسعي الاستعماري للدول الأوربية فكانت مدنهم منبعاً لحركات تحررية مقاومة لهذا الإستعمار، وكان آخرها البريطاني الذي ووجه بمقاومة شعبية.
وكان أن استمر الدعم على المستويين الشعبي والرسمي للقضية الفلسطينية من قبل الخليجيين، حتى بعد معاهدة كامب ديفيد 1980 بين الكيان الصهيوني من جهة و مصر من جهة أخرى، والتي أدخلت العالم العربي إلى مرحلة من التجاذبات السياسية الجديدة، وكان بادياً بشكل واضح الرفض الشعبي لهذه المعاهدة، بل حتى الرفض الشعبي لفكرة التقسيم وقرارات الأمم المتحدة التي أفرزتها هزيمة حزيران 1967م. لم يكن الخليجيون يرضون بأقل من كامل التراب الفلسطيني المقدس. ولعلي أذكر أن في الثمانينات كانت المدرسة تغذي الطلاب بالإنتماء الفعلي لهذه القضية، ولم تكن تنطلق إلا من الحق الكامل للشعب الفلسطيني واللاجئين بالعودة إلى ديارهم بعد تهجير قسري، و كان الطالب السعودي يتشارك طوعاً في مصروفه اليومي مع الطفل الفلسطيني عبر مشروع (ريال فلسطين الوطني).
الانتفاضة الأولى كانت حافزاً جديداً لكل أشكال الدعم للقضية الفلسطينية، فالحجر الذي كان أشرس مقاوم في وجه آلة القتل الصهوينية، أخجل الأنظمة والشعوب العربية، ووقفت جميعها مع القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها، دون أن يقف تبني بعض الأنظمة العربية والخليجية لقرارات الأمم المتحدة التي اقتطعت من التراب الفلسطيني لصالح كيان غاصب، في وجه هذا الدعم. فالانتفاضة حركت أقلام الشعراء، والكتاب والمسرحيين، و حتى حركت جامد ألوان التشكيليين ليبدعوا أشكالاً من الدعم لهذه القضية.

كانت نقطة التحول الحقيقية في مسار هذه العلاقة الوجدانية التي أسس لها الوعي الوطني والسياسي والقومي، بين الخليجيين وبين القضية الفلسطينية، يوم انطلق الجيش العراقي بغية غزو الكويت تحت غطاء أمريكي، والتي عنونت لمرحلة جديدة للعلاقات العربية العربية. فالغزو العراقي خلف في الصدور ما خلف، وأوقع المجتمع العربي بمجمله في واقع جديد، وفي علاقات جديدة لم تكن مألوفة قبل هذه المرحلة، وخاصة في العلاقة بين الخليجيين و الفلسطينين، والتي تحولت إلى علاقة عداء بين أنظمة الحكم الخليجية والقيادة الفلسطينية متمثلة بالزعيم الراحل ياسر عرفات والذي أيد الغزو العراقي للكويت. وبطبيعة الحال فإن هذا العداء قد تسرب إلى الثقافة الشعبية، وإلى أشكال التعبير الفنية والأدبية بشكل جلي.
أما معاهدات السلام، واتفاقية أوسلو التي فتحت الباب أمام حالة من القبول العربي برعاية أمريكية وغربية للكيان الصهيوني، وانفتحت إثره بعض الدول العربية على هذا الكيان بتطبيع العلاقات معه، وإنهاء حالة العداء، وتحول العلاقة معه من علاقة خصام إلى علاقة قبول، فدخلت أبجديات جديدة إلى قاموس التعامل مع هذا الكيان، فلم يعد في الأخبار والصحافة (الكيان الصهيوني) كما كان في السابق، بل غابت هذه المفردة وأبدلت إلى دولة إسرائيل، وتحولت المقاومة كمفردة إلى رديفة للهمجية والشغب ولا تتقارب مع الحضارة التي كان يراد لها أن تتسرب إلى كل حياة شعوب الأرض وتغير من شكلها. ومذ ذاك والقضية الفلسطينية تختصر في الجانب الرسمي للسلطة الفلسطينية، ولم تعد أي حركة من الحركات التي اتخذت من العمل المقاوم عبر العلميات الفدائية والعمليات القتالية تفي بمتطلبات المرحلة، ولم تعد تمتلك عناصر التحضر الذي يأتي في سلم أولوياته الرضا والتعايش والقبول بهذا الكيان كدولة مستقلة تملك احترامها رغم كل تجاوزاتها ووحشيتها بحق الشعب الفلسطيني.
المسرح الخليجي.. مدخل تاريخي
كانت بدايات المسرح الخليجي مدرسية، فأول مسرحية خليجية نفذت في البحرين وبالتحديد في مدرسة الهداية الخليفية أول المدارس النظامية في العام 1925م، وهي “مسرحية (القاضي بأمر الله)، وفي عام 1928م قدمت المدرسة نفسها مسرحية”أمريء القيس” وتبعتها مسرحية “نعال أبو القاسم الطنبوري””(6)، أما ولادة المسرح في الكويت فقد كانت من المدرسة أيضاً قبل العام 1938م، والحال ذاتها في السعودية التي عرفت المسرح، حسب ما تشير الوثائق، منذ العام 1928م من مدرسة في مدينة عنيزة، أما دولة قطر فقد بدأ مسرحها من الأندية الرياضية في ستينيات القرن الماضي، بينما بدأ المسرح في عمان في الثمانينيات من المدارس، أما المسرح في دولة الإمارات وهو الأكثر بروزاً ونشاطاً في منطقة الخليج فإن بداياته تعود إلى نهاية الخمسينيات حيث يعود أول عرض إلى العام 1958م.
و”في أواخر الخمسينات وصلت البدايات المسرحية التي نشأت في المدارس والأندية إلى عزلتها وانتهائها كمرحلة تاريخية استوعبت الدروس الماضية للدور الإصلاحي لتبدأ في الظهور سيماء تجربة مسرحية مختلفة اختلافا شديدا عن تلك البدايات الأولى. وأبرز مظهر للتغير الذي أصاب التجربة المسرحية في مجتمع الخليج العربي هو انتقالها من ساحات المدارس والأندية إلى المكان الطبيعي اﻟﻤﺨصص لقيام العرض المسرحي. بما يحققه من أدوات لها ضروراتها الفنية”(7)، وكان هذا في الكويت والبحرين اللتين تعرفتا على المسرح مبكراً، أما التجربة المسرحية المختلفة كما يعبر عنها الدكتور إبراهيم غلوم فقد بدأت في السعودية فعلياً في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً مع الإرهاصات الأولى لترسيم المسرح عبر إنشاء جمعية الثقافة والفنون في العام 1973، وهذا التاريخ يبدو لاحقاً بسنوات طويلة عن نكبة 1948 و بسنوات ست عن نكسة حزيران، ويعني أن المسرح السعودي لم يواكب هذه النكسات العربية التي اقتطعت من الخريطة العربية مدناً وأمكنة.
المسرح السياسي في الوطن العربي
ويعود تاريخ ظهور المسرح السياسي في الوطن العربي إلى ما بعد نكسة حزيران، كونه كان ردة فعل لما آل إليه الوضع العربي، فشكل ظهوره “مرحلة جديدة، إذ أخذ يشارك في حوار الأمة العربية كلها، هذا الحوار الذي وضح في ذلك التساؤل الكبير: من نحن؟، إلى أين؟، كيف؟، .. من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف” (8)، هذا المسرح السياسي الذي كان لظهوره دور في طرح موضوعات جديدة لم تكن مألوفة في المسرح العربي وعلى رأسها الحراك النضالي للشعب الفلسطيني وفدائيته في وجه الإحتلال.

المسرح السياسي الذي كانت خشبات عربية مساحة حرة له بعد سنوات من التخلف عن تناول القضية الفلسطينية بسبب –كما يرى الدكتور أحمد العشري- “التمزق في وحدة البلدان العربية، من جهة واختلاف أساليب أجهزة الحكم التي أسهم أغلبها في قمع حركات التحرر والأدباء الأحرار عموماً، وسد الطريق أمامهم للتعبير بحرية عن تطلعاتهم للتعبير عن مأساة فلسطين بشكل مباشر” (9)، غاب عن الخشبات الخليجية تماماً، فلم يؤسس لتيار مسرحي سياسي يتوازى مع التيارات التي ظهرت في مصر أو سوريا على سبيل المثال، بل كانت بعيدة عن التطرق لقضايا السياسة. فالراصد لببلوغرافيا المسرح الخليجي منذ تأسسه وحتى اليوم لا يجد مسرحيات تنتمي لهذا التيار باقية في ذاكرة المسرح، كما بقيت في الذاكرة مسرحيات باكثير، ألفريد فرج، عبد الرحمن الشرقاوي، سعد الله ونوس.. وغيرهم، ككتاب مسرح انشغلوا بالقضايا العربية والقضية الفلسطينية كقضية أمة. فالمسرح الخليجي بدا مشغولاً بعروض مسرحية إجتماعية أو تاريخية ذات نزعة كوميدية وبعيدة عن أي إسقاطات سياسية.
المتغيرات الاقتصادية وأثرها على المسرح في الخليج
مرد الابتعاد عن طرح القضايا السياسية في المسرح الخليجي إلى التغيرات الاقتصادية التي طرأت على المجتمع الخليجي بعد اكتشاف البترول، أي قبل استقلال هذه الدول عن الاستعمار البريطاني، فاكتشاف أول أبار النفط كان في البحرين في العام 1932م، وتبعتها السعودية بعدها بسنة. اكتشاف النفط شكل منعطفاً في حياة الخليجيين حكاماً وشعوباً، فبعد سنوات طويلة من الاعتماد على صيد اللؤلؤ والحركة التجارية بين هذه الدول والهند، والتي لم تكن قادرة على التاثير على معيشة الخليجي، قادت “الطفرة” (منتصف السبعينات) الخليجيين إلى حياة جديدة دبت فوق أرضهم، “فمع تدفق النفط على المجتمع الخليجي بدأت تتغير الملامح الاقتصادية فتوسعت مجالات الإنفاق سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد، وتغيرت بشدة أنماط الاستهلاك، واختل ميزان توزيع الثروة ونشأت علاقات اجتماعية جديدة وتغيرت التركيبة السكانية”(10)، هذا النفط الذي أسس لاقتصاد خليجي جديد لم يقف عند هذا الحد بل جلب “قيماً جديدة على المجتمع الخليجي ولم يكن التغير في القيم والسلوك فقط إنما كان أيضاً في البنى الاجتماعية الأخرى”(11)، فأفرز عن طبقات لم تكن موجودة مع تقليدية المجتمع الخليجي، وإعتماده على مهن عادية.
هذا القفز على التقليدية أسهم في تحولات تجاه قضايا العالم العربي والإسلامي، وإن كان لا يعني التخلي الكامل عن هذه القضايا، لكن وهج هذه القضايا وعلى رأسها القضية الفلسطينية خفت بسبب الانشغال بقضايا إقتصادية، وقضايا الرفاهية الطارئة، و ما لها من تبعات إجتماعية وثقافية وسياسية. فالقضية الفلسطينية تحضر بخجل هنا وهناك خاصة في المسرح، الذي يتأثر بشكل عضوي مع هذه المتغيرات (لارتباطه المباشر مع المجتمع “الجمهور”)، ففي وقت كانت الموضوعة الفلسطينية-سياسياً- على قائمة الاهتمام، كانت تقدم العروض المسرحية التي تتناول هذه القضية بمنبرية وخطابية، ولا يعتنى بقيمتها الفنية، وكانت تجسد الشخصيتان الفلسطينية والإسرائيلية بنمطية مكرورة، شخصيتان على النقيض، شر مطلق مقابل خير مطلق، دون الولوج إلى جوانية هذه الشخصيات، وتقديمها بتحليلية تمتلك قيمتها الفنية والفكرية. فجل هذه العروض نزعت إلى المدرسية والمباشرة، وإلى الأداء المسرحي الفج، والإخراج المعلب. إضافة لكونها لا تعدو كونها عروض مسرحية تقدم في مناسبات أو حفلات تضامنية مع القضية الفلسطينية. ولكن هذا لا يمنع من وجود بعض التجارب المسرحية الفردية، والتي عادلت بين الفني والفكري، ولم تسقط في الشعاراتية المفرطة، ومن نماذج تلك المسرحيات التي احتفت بالقضية الفلسطينية تأخذنا الذاكرة إلى دولة الإمارات وإلى الشارقة على وجه التحديد حين قدمت في العام 1959م مسرحية (وكلاء صهيون) من تأليف وإخراج جمعة غريب، والتي أسهمت في تحريض الجمهور الذي حضر العرض إلى الخروج في مظاهرة احتجاجية طافت شوارع المدينة، مسرحية (الرسائل) 2000م، إعداد وإخراج: خالد الرويعي، والمسرحية مبنية على مكاتبات الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم حول الوضع الفلسطيني، مسرحية (كاريكاتير) 1992م، تأليف وإخراج : يوسف الحمدان، وكانت مستوحاة من رسوم فنان الكاريكاتير البحريني خالد الهاشمي، حيث سلط المخرج فيها على الأوضاع السياسية العربية بشكل كاريكاتيري مستعينا بتقنية المسرح الأسود، ومسرحية (الاغتصاب) للكاتب العربي سعد الله ونوس وإخراج البحريني إسحاق عبد الله.. وغيرها مما لم تتسع له الذاكرة المسرحية، فرصد كل التجارب هو من الصعوبة بحيث لا يمكن تحقيقه، لكن تظل مجمل التجارب لا تفي بغرض تأسيس تيار مسرح سياسي في الخليج، والذي أريد له أن يتأسس بمسرحيات على شاكلة مسرحية (باي باي عرب) للنجم عبد الحسين عبد الرضا والتي تناولت الموضوع السياسي بقالب كوميدي إلا أنها التي لم تخلد كما خلدت سابقتها (باي باي لندن) إذ لم تكن على هوى جمهور اعتاد على الكوميديا والضحك للضحك. إضافة لمسرحيات غانم السليطي (أمجاد ياعرب) و (دوحة تشريف)، ومسرحية (رحلة حنظلة الحنظلي) لسعد الله ونوس وإخراج فؤاد الشطي.
الطفرات الإقتصادية التي طرأت على المجتمع الخليجي كانت هي المحرض الأول لإخراج القضية الفلسطينية عن المتن –إن كانت على المتن في يوم من الأيام – و وضعها على هامش القضايا التي يتناولها المسرح الخليجي، خاصة الطفرة الاقتصادية الثانية في بداية الثمانينات التي فتحت المجال لتناول قضايا مرتبطة بها، وكانت الثيمة المشتركة لمسرحيات الثمانينات وما بعدها، وهذا ما غيب تماماً الحس الوطني في هذا المسرح لصالح قضايا العقار والثراء بشكله الجديد، ومشكلات سوق الأسهم وانهياراته، إذ باتت هذه القضايا في طليعة الاهتمام، وأسهمت بذلك في تفشي التهريج والكوميديا الجاهزة خاصة في المسرح الكويتي الذي صار أنموذجاً لمسارح أخرى قلدته وتعلمت من سطحية مسرحه التجاري.
وبفعل غياب الحرية و الديمقراطية في الدول الخليجية الخاضعة لسلطة حكم العائلة، وغياب العملية الديمقراطية المتمثلة بالمشاركة الشعبية في القرار السياسي الداخلي والخارجي عبر برلمانات منتخبة، عدا عن التجربة الديمقراطية الأبرز في الكويت، فإن هذا الوضع السياسي لا بد أن يؤثر بشكل مباشر على طبيعة التناول الخجول للقضية الفلسطينية، فوجهة النظر الرسمية هي التي تفرض نوعية هذا التناول، ولا يمكن لأي مسرح خليجي أن يتجاوز القرار السياسي أو وجهة النظر الرسمية حيال القضايا المختلفة وخاصة قضية فلسطين. فالدول الخليجية بمجملها منحازة للقضية الفلسطينية من خلال قرارات الأمم المتحدة التي تبدو ملتزمة بها التزاماً كاملاً، والتزامها بدعم السلطة الفلسطينية كممثل شرعي للفلسطينين، لذا بدا المسرح –قسراً- منحازاً لخيار السلام ولرفض أي عمل فدائي ضد الصهاينة الذين تحولوا إلى شركاء سلام وفق هذه القرارت، فنأى المسرح الخليجي بنفسه عن تناول القضية وفق المطلب الشعبي العربي المؤمن بخيار المقاومة وتحرير كامل التراب الفلسطيني، ونأى عن تناول شخصية الاسرائيلي بكل ما تحمله من وحشية. بينما اختصرت الشخصية الفلسطينية في المسرح الخليجي بشخصية المدرس أو عامل المطعم الكاريكاتوريتين، ولا تحضر شخصية الفدائي أبداً لأنه أصبح من إرث الماضي، ولا يتناسب مع شرق أوسط جديد، وهذا ما يؤكده كتاب تيار الليبرالية الجديدة في الخليج، الذين رفضوا أي شكل من أشكال المقاومة عبر العمل الفدائي، والذي تقوم به بعض الحركات المسلحة والأجنحة العسكرية لمنظمات فلسطينية.
المسرح الخليجي فقد وظيفته كحافز للوجدان، على أقل تقدير، حول القضية الفلسطينية، التي تنازعتها المشكلات الداخلية والتشظي الداخلي، وصارت في مهب المزاج الأمريكي.
ولكن يبرز في هذا السياق أنموذجان لمسرح تناول القضية الفلسطينة بعيداً عن هذه الوجهة الرسمية الملتزمة بالقرار الأممي، إذ لا زال هذان النموذجان وفييين للقضية الفلسطينية، ويمكن اعتبار تجربتهما امتداداً لخط المسرح السياسي. ففي السعودية شكلت عروض ورشة الطائف المسرحية خروجاً عن نمطية تناول القضية الفلسطينية في المسرح السعودي، فاشتغالهم لسنوات على مبدأ البحث والتجريب وكسر القوالب الجاهزة، في مجالات النص والسينوغرافيا، أفرز عن عروض ذات قيمة فنية، وهذا ما يعطي لتجربتها في هذا السياق أهميتها. ففي العام 1984م، قدمت جمعية الثقافة والفنون بالطائف مسرحية (مع الخيل يا عربان) تأليف الدكتور راشد الشمراني وإخراج عامر الحمود، وطرحت المسرحية موضوع التشرذم العربي أمام العدو مما يجعل العرب بعيدين عن قضيتهم الأم، القضية الفلسطينية. بينما طرحت مسرحية (يا رايح الوادي) في العام 1989م وهي من تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج عثمان أحمد القضية عبر حكاية قرية تهاجمها الذئاب، ورغم الخطر المحدق فإنها تنشغل بصراعات داخلية، عدا عن أطفالها الذين يرفعون راية الدفاع دلالة على أطفال الحجارة. و”لم تكن مسرحيتا (النبع1990) و (بيت العز1992) بعيدتين عن هذا الإطار إذ تناولت القضية بشكل غير مباشر من خلال طرحها لجمل من مشاكل العالم العربي ومشاكله والعدو الذي يتربص به”(12). وكانت مسرحية (الفنار 1995) تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج أحمد الأحمري قد طرحت واقع سكان جزيرة في انتظار مجهول، يتعرضون لسرقة قراصنة البحر والبر، يجمعهم خيار الصلح و تفرقهم المواجهة، بينهم رجل الفنار الذي يرتدي ملابس سجن تحمل رقم القرار 242، هي الهرولة جهة الصلح التي أضاعت مابقى من أمل، تنازلات لاتنتهى. وفي مسرحية (المحتكر 1998م)، يلعب العربي مع الأمريكي لعبة يخسر فيها العربي على الدوام، لكن هذا الأمريكي لا يكفيه ربح اللعبة بل لا يكفيه شيء، يريد كل شيء، وهي إسقاط على الدور الأمريكي الخطير في المنطقة، المسرحية من تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج أحمد الأحمري.
الأنموذج الآخر، هو الكاتب المسرحي الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة الذي قدم للمسرح العربي ستة نصوص مسرحية تناولت قضايا الإنسان العربي وهمومه الوطنية والقومية، حيث لم يركن إلى محدودية القضايا المحلية، فبنصوصه المسرحية التي نفذت في افتتاح دورات أيام الشارقة المسرحية، أدرك حجم الحاجة في المسرح الخليجي لهذا النوع من المسرح الذي لم يعد له وجود. فنصه الأول (عودة هولاكو) والذي خرج إلى النور في العام 1998 كان أسقاطاً تاريخياً للواقع العربي المعاصر إذ يقول في مقدمته “من قراءاتي لتاريخ الأمة العربية وجدت أن ما جرى للدولة العباسية قبل سقوطها مشابه لما يجري الآن على الساحة العربية وكأنما التاريخ يعيد نفسه، فكتبت هذه المسرحية من منظور تاريخي لواقع مؤلم. إن أسماء الشخصيات والأماكن والأحداث في هذه المسرحية كلها حقيقية. وإن كل عبارة في هذا النص تدل دلالة واضحة على ما يجري للأمة العربية»(13). أما نصه الثاني (القضية) 2000 م، فهو يستلهم فيه التاريخ العربي الإسلامي، مؤكداً أن أحداث الماضي ما هي سوى تمثل لأحداث معاصرة بكل مأساويتها. أما نصه الثالث (الواقع صورة طبق الأصل) فهو يعيد تمثيل الواقع العربي المعاصر برداء ماضوي، ومنه يؤكد، كما يقول في مدخله أن الأمة الإسلامية مرت “بفترات أشد قسوة مما نحن فيه، فلتكن هذه المسرحية واقعاً لعدم اليأس وحافزاً نحو التوحيد والنضال»(14). والنصوص الثلاثة نفذها المخرج العراقي الراحل قاسم محمد. أما نصه (الاسكندر الأكبر) الذي أخرجه المصري أحمد عبد الحليم وصدر في كتاب في طبعته الأولى عام 2007 ، فهو نص تاريخي يسقط فيها شخصية الأسكندر على حاضر المنطقة، بينما يوظف القاسمي في نصه (النمرود) 2008 والذي أخرجه المنصف السويسي شخصية النمرود بأسطوريتها في بابل التاريخية لتحاكي الحياة التي نعيشها في وقتنا الراهن. وسادس نصوصه والذي أخرجه أحمد عبد الحليم 2009م، كان (شمشون الجبار) والذي صدر بالتزامن مع الذكرى الستين للنكبة، وتشكل المسرحية وقفة حقيقية مع القضية الفلسطينية وتاريخيتها، حيث يفكك القاسمي في نصه عديد من المفاهيم الخاطئة للقضية الفلسطينية التي شابتها على مستوى وجهة النظر الغربية، التي تأثرت بأبواق الدعاية الصهيوينة التي استفادت من نفوذها في المؤسسات الرسمية والإعلامية العالمية في أن تروج لروايات مشوهة عن أرض فلسطين، وجيّرتها لما يخدم مصالحها ومزاعمها.

وتكشف المسرحية زيف الرواية الصهيوينة منذ القديم، وتقدم ذلك الزيف المستمر حتى وقتنا الحاضر، عبر شخصية شمشون كما جاءت في العهد القديم، وعبر استحضار الوثيقة التاريخية، الشخصية الخرافة التي ليست سوى انعكاس لشعور العدو حيال العرب والفلسطينيين الذي تجسد من خلال قوة خارقة اسبغوها على بطل يواجهون به الفلسطينيين.
هذه النماذج من النصوص المسرحية التي لم تعد مألوفة في المسرح الخليجي كانت نتاج حس قومي عروبي، وإيمان راسخ بهذه القضية المصيرية، من رجل تشرب هذا الوعي رغم حاكميته وموقعه في السلطة. فرغم هذا الموقع الرسمي الذي يجعل من الصعب لرجل سياسة أن يخالف الرأي الرسمي العربي الذي بدأ بترك واجبه تجاه القضية والبحث عن بر أمان بعيداً عن الصدام مع هذا الكيان الغاصب، ولو فكرياً والتأكيد على الحق الفلسطيني، بعد أن صنف العرب إلى فسطاطين متخالفين، معتدل وممانع. فالقاسمي رغم موقعه في السلطة لم يأنف من الجهر بقوميته والإصرار على عروبته و الدعم لقضية فلسطين. ولكن المشكلة أن المسرحيين الخليجيين لم يصابوا بعدوى الإهتمام بالقضية، ولم يتوازوا معه في تفانيه في الكتابة عن قضايا عربية مسيسة بدل الإنشغال في قضايا مغرقة في المحلية، والتي لا يمكن أن تعكس الدور المناط بالمسرح في مجتمع مأزوم، فالمسرح قادر على التغيير من خلال التعبير الحر، وهذا ما لا يتسم به المسرح الخليجي الذي تنازل عن صدقيته منذ زمن بعيد.
إحالات:
- جريدة الجزيرة السعودية 3/8/2005
- موقع وزارة الخارجية البحريني mofa.gov.bh
- أرض الشهداء- دار ومكتبة الهلال، إبراهيم العريض.
- الخليج العربي، دراسة في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر-الشرفاء.
- الخليج العربي، دارسة لتاريخ الامارات العربية في عصر التوسع الأوربي الأول-جمال زكريا قاسم، دار الفكر العربي
- المسرح في الوطن العربي-د.علي الراعي عالم المعرفة 25 (1979)
- المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي، د.إبراهيم غلوم-عالم المعرفة 105 العام 1986م.
- المسرحية السياسية في الوطن العربي-د.خالد العشري، دار المعارف.
- نفسه.
- تأثير المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية على المسرح الخليجي- د. حبيب غلوم العطار، اصدارات المجمع الثقافي بأبو ظبي 2000م.
- نفسه
- فهد ردة الحارثي- رسالة شخصية.
- عودة هولاكو-الشيخ سلطان القاسمي، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 1998م.
- القضية-الشيخ سلطان القاسمي، مداد للطباعة، الشارقة 2000م.
ألف شكر أستاذ عباس على البحث القيم
شكراً أستاذة سمر لمرورك