الشخصيات:
أبو ظافر: خمسيني رجل فاضل وهو حكيم القري
ظافر: عشريني ابن ابي ظافر، ملتزم وهادئ
دانة: عشرينية جميلة ابنة العمدة وخطيبة فهد
فهد: في نهاية العشرينيات، شاب وسيم يعمل مع والده في دكان
غانم: شاب في نهاية العشرينيات ذو سلوك غير سوي.
حمدان: ثلاثيني، صديق غانم والمرافق له، فيه الكثير من الخبث
إحسان: في العاشرة، هو ابن العمدة وأخو دانة.
أهل القرية من نساء ورجال
المشهد الأول
تفتح الإضاءة على شاطئ البحر ونرى في العمق منظر البيوت الطينية البسيطة، يسمع صوت الموج، الوقت نهارا، يدخل أهل القرية رجال القرية ونساؤهم وأطفالهم وهم يحملون في أيديهم سلالاً مصنوعة من الخصوص وقد نمت فيها أوراق خضراء، نرى منهم دانة وهي شابة على مشارف العشرين وفهد وهو في العشرينات وهو شاب وسيم، وحمدان شاب ثلاثيني، كلهم يمسكون بهذه السلال التي يسمونها (الدوخلة[1]) أو (الحيا بيا في بعض دول الخليج الأخرى)، يدخل أبو ظافر جابر وفي يده سلة هو الآخر، يتقدم الناس وعلى وجهه ابتسامة فرح وهو يهز السلة المدلاة بحبل
أبو ظافر: (وهو يهز السلة) اخضرت سلالنا، طفى الأخضر على كل ما فيها شوقا للغائبين.
دانة: كلما زاد الشوق، اخضرت السلال.
فهد: عسى أن يخضر دربهم فيعودوا محمولين بأدعية الوالهين لهم.
أبو ظافر: سيعودون، لأن أمانينا ستصلهم في رحلة العودة.
دانة: (برجاء) يا رب، أعد أبي وأمي إلي.
فهد: أعد أبي وكل حجاج بيتك.
أبو ظافر: اكثروا من الدعاء من أجلهم، فالله يحب أن يدعى. صلوا لأجلهم أن يعيدهم سالمين لنا.
إمرأة1: (بتضرع) يا رب أختي في ضمانتك، فأعدها لي. ابناؤها ينتظرونها بشوق.
رجل1: وإبني أيضا، أظل على مجمر الخوف عليه. أعده لي ربي إنك الحنون على قلوبنا الهشة.
رجل2: زرعت دوخلتي لتنمو اخضرا يشبه انتظارنا. يا رب اجعله أخضرا دائما لا يبلى
دانة: (تنظر لفهد) ننتظر القادمين بلهفة، عودتهم للديار بداية حكاية منتظرة.
حمدان: يا أبا ظافر، متى نرمي السلال في البحر؟، تعبت سلالنا وهي مدلاة تتأرجح، حان وقت أن تحملها الأمواج وتسافر بها.
إمرأة2: متى يا أبا ظافر؟
أبو ظافر: الآن، الآن يمكنكم أن ترسلوا هداياكم وسلالكم عبر أمواج البحر للحجاج الغائبين.
فهد: (وهو يهز السلة يردد بلحن خاص) دوخلتي حجي بي، حجي بي
إمرأة1: (تردد معه) ليمن يجي حبيبي.. حبيبي
رجل1: (يردد وهو يهز سلته) حبيبي راح مكة
إمرأة2: (تردد وهي تهز سلتها) ومكة المعمورة
الجميع: (يرددون) فيها السلاسل والذهب يا نورة..
دانة: (وهي ترمي سلتها باتجاه البحر يسار المسرح) يا رب أعد أحبائنا
الجميع: (يرددون وهم يرمون السلال في البحر) دوخلتي حجي بي، حجي بي، ليمن يجي حبيبي حبيبي، حبيبي، حبيبي راح مكة، ومكة المعمورة، فيها السلاسل والذهب يا نورة يا نور
يرمي الجميع سلالهم في البحر ويغادرون المكان، يبقى حمدان وأبو ظافر الذي ينظر للبحر وعلى وجهه بعض القلق، يقترب حمدان من أبو ظافر
حمدان: هل تكفي سلالنا الخضراء نذورا لسلامتهم؟
أبو ظافر: (وهو ينتبه له) تكفي يا حمدان، هي نذور نتقرب بها إلى الله، ولكن دعاءنا أجدى.. لا تهملوا الدعاء، وكونوا اقرب لله ليعيدهم سالمين لنا.
حمدان: سنصلي لهم، لن ننساهم في كل صلاة.
أبو ظافر: أحسنت..
يهم حمدان بالمغادرة لكن توقفه مناداة أبو ظافر له
أبو ظافر: (ينادي) حمدان
يعود حمدان للحكيم
حمدان: حاضر يا أبا ظافر
أبو ظافر: (يتنهد) شكرا لأنك شاركتنا، رغم أن لا أحد لك في رحلة الحج
حمدان: الغائبون أهلي.
أبو ظافر: يبدو أنك شاب قلبك أبيض. فلا تفسد طيبتك أبدا، ولا تفتح باب قلبك لمن يلطخ بياض قلبك بسواده.
حمدان: (مرتبكا) شكرا لنصيحتك. سأعمل بها أكيد.
يغادر حمدان بسرعة وعليه يبدو الارتباك بينما يظل أبو ظافر وحده يقابل البحر
أبو ظافر: (يتنهد) ترفق بهم يا بحر، ترفقي بهم يا رمال. ترفق بهم يا سماء.. ترفقي بأبنائنا، أعدهم يا الله لنا فالقرية تحتاجهم، قلوبنا تحتاج للفرح.
يغادر أبو ظافر، ولحظات وتدخل دانة وهي تحمل فانوسا لتقترب من البحر، تقف بمقابله
دانة: (تتنهد) أيتها الأمواج الهادئة، انقلي شوقي لأبي وأمي، اخبريهما أن دانة وابنكما إحسان ينتظراكما، بلهفة الانتظار رغم أن صوتكما لم يغيبا من البيت، فكل جدرانه ترجع صدى صوتكما. ولم تغب رائحة ثوبك يا أبي المضمخ بالبخور، فكل البيت دخان بخورك. يا أبي لك ابنة تهب الليل حكاياتك، والنهار أغانيك. عد يا أبي، عد. أمي، أنتظرك بحناء مكة الذي ستنقشينه على يدي ليلة عرسي، أنتظرك يا أم العروس لتغني ليلة عرسي أغانيك التي وعدتني بها
يدخل فهد دون أن تنتبه له وهو يحمل فانوسا هو الآخر
فهد: سيعودان، وأبي سيعود يا دانة
تنتبه له تبتسم وهو يقترب منها
فهد: كالعادة، أنت هنا.
دانة: حتى يعود أبي. البحر يسليني، يسلي المشتاقين.
فهد: (بابتسامة) وأنا مشتاق إليك اكثر. أنتظرهم حتى نكون معا للأبد. أنا أحسب الساعات حتى يحين موعد زفافنا.
دانة: حين يعود أمي وأبي وأبوك، سنتزوج. كان هو الوعد يا فهد.
فهد: دانة يا رفيقة الروح، متى؟، الانتظار طائر أسود يحط على الصدر ويخنقه.
دانة: الصبر يا فهد، الأيام ستعطينا البهجة المنتظرة. تسلى عن الانتظار بعملك الذي تحب.
فهد: أحبه ولم اختره، اختاره أبي لي. ولكني أحببته لأن فيه رأيتك، فيه رأيت فاتنتي التي سكنت القلب. لولا دكان أبي ما رأيتك
دانة: (تضحك) كانت أجمل صدفة.
فهد: (يضحك) هي ليست صدفة، مكتوب لنا أن يحدث ما حدث، أن أراك، أن أحبك، أن أهيم فيك، وأفكر أن أتزوجك دون غيرك من بنات القرية.
دانة: آه يا فهد (تزفر ضيقا) لا أكذب عليك، يخالجني شعور بالخوف. خائفة على أمي وأبي. خائفة عليهما من وعثاء الطريق وكآبة المنظر. تعرف كم يشقون في طريق سفرهم.
فهد: أما أنا فيقيني أنهم عائدون بالسلامة. ستفرح القرية، ستزهو أزقتها بفوانيس الفرح. ستتلون الجدران بالألوان والرسوم. سيعودون، لا تخافي يا حبيبتي.
يمسك بيدها ليطمئنها ثم إظلام تدريجي، ولحظات وينار المسرح من جديد على حمدان وغانم
غانم: (لحمدان) يبدو أنك صرت منهم، وبعتني
حمدان: كيف أبيعك يا غانم، أنت صديقي؟ أنا معك في حلك وترحالك.
غانم: وماذا عن دوخلتك التي رميتها معهم في البحر؟
حمدان: (يضحك) إنها مجرد سلة، أتغار من سلة؟
غانم: بل أرتاب منك ومما فعلته.
حمدان: لا تخف قلت لك مرارا، لكنك لا تثق بي أبدا. أنا أفعل كل هذا لأجلك. يجب أن لا يشعر أحد بما تنويه. هم يعرفون تماما عن قربي منك.
غانم: وما تسمي ما فعلته؟
حمدان: مسايرة، أنا أسايرهم، أبعد الشك عني وعنك.
غانم: أتظن أنهم لا يشكون الآن؟
حمدان: الناس، نعم. أما أبو ظافر جابر، فلا.
غانم: (بضيق) إنه يكرهني، ولا أدري ما السبب.
حمدان: لأنه يعرفك جيدا.
غانم: (بريبة) ماذا تعني
حمدان: يا صديقي، أنت تعرف ما أعني. أنت شخص مكشوف عند أبي ظافر، يعرف ما بداخلك من طمع.
غانم: لا يهم، ما يهمني ألا يفسد علي ما أنويه.
حمدان: اتمنى ذلك. سأحاول جاهدا أن أبعده عنك.
غانم: (يضحك) لذلك أحبك، تفعل كل شيء من أجلي. ودون أي مقابل.
حمدان يبتسم بخبث
حمدان: صحيح دون مقابل مالي، ولكنك ستكافئني وتقربني منك أكثر.
غانم: ومن سيكون بقربي أكثر منك يا حمدان. يكفي أنك من اقنعت ابن عمي العمدة ابو إحسان أن أكون مكانه في غيابه.
حمدان: لو كان إحسان ابنه كبيرا كفاية ولو كانت ابنته دانة صبيا، لما حلمت يا غانم حتى.
غانم: (بإصرار) لن يكون إحسان عمدة، ولن يعود ابن عمي من رحلة الحج. إنه رجل مريض متعب. وأظن أنها رحلة حج أخيرة له. لن يعود منها. فالذاهب مفقود والعائد مولود.
حمدان: (يضحك بخبث) ولن يكون أحد غيرك مستحقا لعمودية القرية.
يبتسم غانم سعيدا
إظلام
المشهد الثاني
في بيت العمدة أبي إحسان والد دانة، البيت يبدو أنيقا من بيوت أهل القرية الطينية، مفروش بالسجاد والفرش الأرضية والمساند، على الجانب تعلق عدد من سلال السعف (الدوخلة) وقد نمت فيها الأوراق الخضراء، نرى دانة وهي تسقي السلال بالماء وهي تغني
دانة: (تغني) أعيدي أبي، أعيدي أمي من بلاد بعيدة
من طريق طويل، من وحشة السفر
كما سأسقيك ماءً ودفئا، كما رعتك يدي
اسقيني من نداك فرح
وابعثي للغائبين المطر
مطرٌ ي يطفئ جمر التعب
سأغني لك كل صباح، وكل مساء
دوخلتي حجي بي، حجي بي
نسمع صوت طفل صغير يقترب وهو يكمل الأغنية إنه إحسان أخو دانة وابن العمدة
ص.إحسان: (من الخارج) ليمن يجي حبيبي
تنتبه دانة لصوته وتكمل معه بصوت واحد
دانة: (مع إحسان في الخارج) حبيبي راح مكة، ومكة المعمورة
يدخل إحسان وهو طفل في العاشرة من عمره وهو يكمل الأغنية
إحسان: فيها السلاسل والذهب يا نورة، يا نورة
دانة: (تكمل) حجيت بك يا يمه
راويتك قبر محمد
صلوا عليه وآله
طلوا خواتي طلوا
شوفوا البحر طميان
شوفوا شراع أبيي
أبيض من القرطاس
شوفوا شراع العدو
أسود من الطفو
يضحك إحسان ودانة معا لكن فجأة يبدو على إحسان الضيق
إحسان: اشتقت لهما
دانة: (تتنهد) وأنا كذلك، تأخرا
إحسان: متى سيعودان؟
دانة: ومن يدري، كان يفترض بهم ان يعودوا، لكنهم تأخروا. كل عام يتأخر الحجاج، سمعت ما يقولون عن طريق الحج، إنه طريق وعر وموحش.
إحسان: وهل يمكن أن يحدث لهم مكروه؟
دانة: لا أتمنى ذلك، بل أتمنى أن يعودوا، كلهم يعودون إلى أطفالهم وبيوتهم.
إحسان: ليتنا ذهبنا معهما، لماذا بقينا؟
دانة: أنت ما زلت صغيرا يا إحسان على سفر طويل كهذا، ثم أن الحج للكبار.
إحسان: هل ترمين دوخلة جديدة اليوم؟
دانة: ولن أمل، كل يوم، حتى يعودوا، وكل يوم سأغني ذات الأغنية، ربما يهبنا البحر أو الصحراء بعضا من أخبارهم.
يسمع صوت طرق الباب، ينتبهان، يغادر إحسان لفتح الباب، لحظات ويدخل عليهما حمدان وهو يحمل بعض الأغراض الغذائية، تستغرب دانة
دانة: أهلا يا حمدان
حمدان: أهلا دانة، كيف أصبحت أنت وإحسان؟
دانة: بخير (تشير لما في يديه) ما الذي تحمله؟
حمدان: بعض المأكولات من عند ابن عمكم غانم
إحسان: لكننا لسنا بحاجة لأي شيء.
دانة: وما المناسبة؟
حمدان: يا دانة، إنه ابن عمكم والعمدة
إحسان: (بحدة) بل أبي هو العمدة وليس غانم.
حمدان: (يبتسم) لقد عينه أبوكما خلفا له في غيابه
دانة: (تقاطعه) حتى يعود أبي بالسلامة
حمدان: أكيد (يشير للأرض) هل أضعهم هنا؟
دانة تشير له بإيماءة أن يضع الأغراض على الأرض
دانة: أشكره عنا.
حمدان: هل لي بسؤال يا دانة
دانة: تفضل، اسأل
حمدان: أشعر إنك تكرهين غانم. رغم أن الرجل لم يؤذيك في شيء. كما أني سمعت أنك اعترضتي على تعيينه عمدة على القرية في غياب أبيك؟
دانة: أتظن أن ذلك النزق يستحق أن يكون عمدة علينا؟، أنا أفضل أن يكون إحسان عمدة على أن يكون غانم
حمدان: ليس إلى هذه الدرجة، أنت لا تعرفينه جيدا، إنه طيب القلب ويحب كل الناس.
دانة: (تقاطعه بحدة) بل يحب نفسه، لا يحب كل الناس. يظن أن كل شيء في القرية له، ملكه.
إحسان: أنا لا أحب غانم، إنه كريه
حمدان: (يبتسم) أنت أولاد عمومة، ويجب أن بينكم كل الحب والاحترام، يا إحسان لا تكره أحدا.
دانة: ممتنة لك على كل ما تفعله يا حمدان. أنت رجل شهم، أوصل سلامي لزوجتك وأطفالك.
حمدان: (يبتسم) سأوصل لهم سلامك يا ابنة العمدة، وسلامك يا إحسان. إلى اللقاء
يغادر حمدان بينما يبدو على دانة ملامح الاستهجان والضيق وهي تنظر للأغراض التي أتى بهم حمدان
دانة: من يظننا هذا الأبله؟، نحن لسنا بحاجة له
إحسان: يظن نفسه عمدة على القرية، لن يكون أبدا عمدة.
دانة: لن يكون يا إحسان، إنه أخرق، يبحث عن مكانة بين الناس. يظن أن العمودية ستهبه المكانة وهو بلا أخلاق.
إحسان: سأرمي ما جلبه
دانة: لا، قد يحتاجها فقير لا يملك ما يسد جوعه، خذها لأبي ظافر واخبره بأن يبحث عن من يستحقها.
يرفع إحسان الأغراض عن الأرض ويغادر
إظلام
المشهد الثالث
في بيت أبي ظافر الذي يبدو بيتا طينينا بسيطا، يجلس أبو ظافر على الارض، وبيده كتاب يقرؤه ومسبحة في يده الأخرى، يسمع طرق الباب يغلق كتابه ويقوم باتجاه الباب، لحظات ويدخل وراءه فهد
أبو ظافر: تفضل يا فهد
فهد: اسمح لي، جئتك في هذا الوقت. أكيد سأفسد عليك عزلة القراءة
أبو ظافر: (يبتسم) لا عليك يا فهد، في أي وقت أردت تعال واطرق الباب، قلبي أوسع لك من البيت.
فهد: (بضيق) لم أستطع الجلوس بالبيت، تعبت من الوساوس الذي تنتابني. البيت صار يحلق في سقفه طائر الموت، الحزن يخيم على كل مكان فيه.
أبو ظافر: (يتنهد) ليس بيدنا ما نفعله غير الدعاء، يد الله ترعاهم يا فهد. لكن كن قويا، كن سندا وظهرا لأمك وإخوتك، لا تهرب من البيت بحثا عن الطمأنينة، أنت من يجب أن تزرع الطمأنينة في بيتكم.
فهد: ليس لي قوة يا أبا ظافر، دموع أمي هطول حزن، وبكاء أختي أسماء يجرح القلب، وصغار البيت يسألون عن الغائب الذي لم يعد، فكيف لي بقوة على تحمل كل هذا.
أبو ظافر: أو تظن أني لست قلقا، لست خائفا عليهم، على ابني، بكري ظافر الذي اختار أن يلتحق بدرب الحجيج؟، أخاف عليه من وجع يصيبه، فما بالك من طريق الحج الذي لا يعرف كيف ينتهي.
فهد: وهل سنظل مكتوفي الأيدي، ننتظر الوقت يمر ولا نعلم عنهم ولا عن مصيرهم شيئا؟ يا حكيم، لا بد أن نبحث عنهم.
أبو ظافر: وكيف نبحث عنهم، وأين؟، من يدلنا على مكانهم الآن؟ إنها مخاطرة.
فهد: يا الله، نريد ما يطمئننا عليهم. فقط اطمئنان.
أبو ظافر: (يتنهد) وأين طريق الطمأنينة. لقد ضللناها، كلنا.
يسمع طرق الباب، يتحرك أبو ظافر، لكن فهد يوقفه بإيماءة، يخرج فهد لفتح الباب ولحظات ويدخل ثانية وخلفه إحسان يحمل الأغراض التي جلبها حمدان، يستغرب أبو ظافر
إحسان: كيف حالك يا أبا ظافر؟
أبو ظافر: بخير، وأنت؟
إحسان: الحمد لله، ننتظر
فهد: ما الذي بيدك يا إحسان؟
إحسان: للفقراء والمحتاجين. لسنا بحاجة لهم.
فهد: (يبتسم) بارك الله فيك يا إحسان. أرسلتهم دانة؟
إحسان: نعم. قالت لي أن أبأ ظافر هو الذي يعرف الفقراء في القرية، والمحتاجين.
أبو ظافر: بارك الله فيك، ضعهم هناك يا ولدي.
يضع إحسان الأغراض على الأرض
إحسان: هذه الاغراض أتى بها حمدان من عند غانم، ورفضتها دانة. قالت أن الفقراء أولى.
فهد: (باستغراب) وما شأن غانم بكما؟، أنتما لا تحتاجان له؟
أبو ظافر: حتى يصدق الجميع أنه يستحق أن يكون عمدة. سيتقرب من الناس حتى يمحو من ذاكرتهم ما فعله في الماضي.
فهد: لن ينسى الناس ما يفعله، إنه سيء الطباع.
يسمع صوت طرق باب بقوة وصوت رجل من أهل القرية من الخارج
رجل1: (من الخارج يصرخ وهو يطرق الباب) يا ابا ظافر، يا أبا ظافر، افتح الباب
يبدو عليهم القلق والتأهب، يركض إحسان باتجاه الباب، لحظة ويدخل رجل1 وهو يلهث سعيدا
رجل1: عاد، عاد يا أبا ظافر
أبو ظافر: (بلهفة) من الذي عاد؟، أخبرني، من الذي عاد؟
رجل1: (وهو يلهث) ظا.. ظاف..ظافر.. ابنك ظافر، عاد من رحلة الحج
ينظرون لبعضهم البعض بفرح، يخرجون سريعا جميعهم بلهفة واضحة
إظلام
المشهد الرابع
في ساحة القرية، كل أهل القرية مجتمعون حيث نرى فهد ودانة والطفل إحسان وأبو ظافر يقف بجانب ولده الظافر الذي يرتدي حرام الحج الذي يبدو متسخا ممزقا، كما يبدو ظافر بهيئة متعبة على ملامحه تعب السفر وما واجهه من قسوة الطريق. الجميع ينظرون ناحية ظافر
أبو ظافر: وكيف عدت أنت؟
ظافر: صدقني يا أبي لا أعرف، تهت منهم، مشيت ومشيت، مر الليل ومر النهار، رأيت شموسا واقماراً، ولا أدري كم مر من الوقت وأنا أمشي، لا أدري إلى أين. طريق طويل، موحش لا ملامح له.
فهد: أين البقية؟ أبي والعمدة، وسالم وزوجة العمدة، أين الجميع؟
ظافر: لا أعرف ما حل بهم، ظننت أنهم عادوا دوني..كنا معا لكن هجموا علينا ببنادقهم وأطلقوا النار، افترقت عنهم، ولا أعلم ما مصيرهم جميعا.
دانة: (تبكي) لا تدري إن كانوا أحياء، أو موتى؟
ظافر: لا يا دانة. قطاع الطرق كانوا مسلحين، والدليل هرب عن القافلة.
أبو ظافر: كان يجب أن تبقى معهم.
ظافر: لم أهتد لطريقهم يا أبي، أتظنني سأترك أهلي في الصحراء دون أن أكون معهم، أن أنهزم عنهم؟، أنا لم أتغير يا أبي، أنا كما علمتني. لكن ما حدث لا يمكن أن أصفه، كان هجوما مباغتا.
دانة: وبماذا أجرمتم حتى يلحق بكم كل ذلك الأذى؟
فهد: لا مبرر غير ما يعشعش في دواخلهم من شرور، هم لم يفكروا حتى أنهم حجيج عائدون من رحلة العشق. رحلة الحج.
ظافر: ما كان يهمهم هو ما كنا نحمله معنا في رواحلنا وكيف يسرقونه.
يقترب إحسان من ظافر
إحسان: كيف كان أبي؟
ظافر يشعر بالورطة ولا يرد
فهد: وأبي؟
دانة: وأمي؟
إمرأة1: وزوجي؟
رجل2: وولدي؟
ظافر يبدأ بالبكاء
ظافر: ليتني أملك جوابا (وهو يبكي) لو كنت أعلم بأنهم ما زالوا في الغياب، لما عدت. أنا خجل من نفسي ومنك، سامحوني.
أبو ظافر يربت على كتف ظافر
أبو ظافر: لم تفعل ما يستدعي الاعتذار.
دانة: (بحزن وإحباط) لا تعتذر.. المهم أنك عدت سالما.
يدخل غانم وخلفه حمدان، يقترب من ظافر وعلى وجهه ابتسامة السعادة
غانم: (وهو يحتضن ظافر) الحمد لله على سلامتك يا ظافر. أخيرا عدت من رحلة الموت.
فهد: ومن قال أنها رحلة الموت، هي رحلة العاشقين الوالهين.
غانم: لا فرق، فالرحلة مليئة بالمخاطر (وهو يشير إلى ظافر) أهذا شكل أحد عاد من رحلة عشق. إنها رحلة موت.
ظافر: نحن من اخترنا الرحلة، اخترنا الطريق ولم يجبرنا أحد عليه يا غانم. أنت لا تعرف كيف يكون المحبون الوالهون، لا تعرفه أنت.
أبو ظافر: ولن يعرفه، هو لا يرى، بلا بصيرة
غانم: أهكذا ترونني يا أهل قريتي، بلا بصيرة؟. سامحكم الله، أنا جئت أطمئن على الغائبين منك يا ظافر. لي في الرحلة أحباء، أنسيتم، ابن عمي الحاج أبو إحسان وزوجته. وكل أبناء القرية هم أحبائي وأخاف عليهم.
فهد: شكرا لك يا غانم، شكرا لنبل مشاعرك.
حمدان: يا أهل القرية الأعزاء، لم هذه القسوة على السيد غانم، إنه عمدتكم الآن. الاحترام واجب يا ناس، كيف تقبلون ما يقال عنه. أيرضيكم؟
فهد: ما الذي تريده يا حمدان؟، لا تكن مشعل حريق.
حمدان: (مصدوما) أنا؟، كل ما في الأمر أني أدافع عن غانم. العمدة غانم.
في هذا الوقت يعدل غانم من وقفته حيث يقف واثقا رافعا صدره ورأسه
دانة: العمدة هو أبو إحسان وليس غانم؟
غانم: وأين أبو إحسان؟، غائب لا ندري ما هو مآله.
إحسان: (بإصرار) سيعود أبي يا غانم
غانم: أتمنى ذلك.. يا رب، أعد ابن عمي إلينا سالما غانما.. يا رب
فهد: هيا يا ظافر، اذهب لبيتك الآن، اغتسل من تعب الطريق.
أبو ظافر: (وهو يمسك ظافر) هيا يا بني، تعال إلى البيت لترتاح قليلا، فأنت بحاجة لراحة البال، قبل راحة البدن.
يتحرك ظافر مع والده مغادرا، يغادر خلفه فهد ودانة وإحسان بينما يبقى غانم وحمدان وسط من بقي من أهل القرية
حمدان: ألم تسالونه أين بقية الحجاج؟، ألم يخبركم؟
رجل1: لا يدري، لا يعرف عن مصيرهم شيئا؟
غانم: ولماذا عاد هو وحده؟، لماذا تركهم وعاد، يبدو أنه هرب، خاف على نفسه وهرب، ترك كبار السن والنساء وحدهم وهو الشاب الذي كان يفترض به أن يبقى معهم، يختار الفرار.
حمدان: وهل تظن أن كل شاب يملك المروءة والشجاعة؟
إمرأة3: ما الذي تقصدانه؟
رجل2: أنتما تلمحان لأمر ما، أتقصدان..
حمدان: (يقاطعه) بالتأكيد، هو ما أقصده، ظافر ابن أبي ظافر بلا مروءة، ترك أهله في وحشة الصحراء، لا يعلم إن كانوا أحياء أم موتى. جاء يتصنع الحزن أمامكم.
رجل1: (بصدمة) أيعقل ذلك؟
إمرأة1: لا تظلمه، كلنا نعرف ظافر
غانم: ابن أبي ظافر عاد وحده، والآخرون لا نعلم عن مصيرهم أي شيء. لماذا لم ينتظرهم، يطمئن عليهم؟.
ينظر أهل القرية بصدمة لوجوه بعضهم البعض، وترتفع الأصوات بينهم، بينما ابتسامة انتصار تعتلي وجه حمدان وغانم
إظلام
المشهد الخامس
في بيت أبو ظافر، أبو ظافر وولده ظافر الذي بدل ملابسه واغتسل، لكنه ما زال على حزنه وضيقه، وآثار البكاء على وجهه، يقدم له أبو ظافر كوب ماء
أبو ظافر: اشرب الماء واهدأ، ولا تلم نفسك. أنت لم تفعل ما يستحق اللوم.
ظافر: (وهو يبكي) تركتهم يا أبي، تركتهم. ولم أقدم لهم ما يحتاجونه من مساعدة.
أبو ظافر: أنت لم تتخل عنهم، ولكن ما حدث لكم هو ما جعلك تفقد الطريق إليهم.
ظافر: لقد نكلوا بي لأني دافعت عنهم، وقفت في وجه لصوص الطريق، لم أكن أملك ما أدافع به عنهم، تمكنوا مني.. (يتنهد) أنا لم أقل لأهل القرية ذلك لأني لا أريد أن أدعي البطولة، لكني حقيقة حاولت المقاومة وهو ما جعلهم يقيدونني في شجرة عارية بلا أغصان، لم أستطيع الفكاك من الشجرة إلا بعد أن فقدت أثرهم، هم من تركوني مقيدا ولم أتركهم أنا.
أبو ظافر: (باستغراب) كان لا بد أن تخبر الناس، حتى لا يظنون أنك تركت أهل قريتك في العراء وهربت.. اخبرني، كيف نجوت من القيد؟.
ظافر: قاومت قيدي، لم اهدأ وأنا أحاول أن أفك يدي من القيد، حاولت وحاولت، حتى تمكنت من تحرير جسدي من الشجرة. لكني وجدت نفسي في وحشة الصحراء، لا أدري أي طريق آوي إليه، وقفت حائراً بلا قرار. لحظتها خفت، نعم، خفت، من ضواري الصحراء، من العطش، من الجوع، من جسدي المنهك.
أبو ظافر: وفقدت طريقك إليهم
ظافر: لم أعرف أي اتجاه أخذوا. كل الاتجاهات كانت تتشابه. كيف لي أن أعرف الشمال من الجنوب، من الغرب من الشرق، لا اثر للاتجاهات. مشيت، وظللت امشي لا أعرف أين ولا كيف ولا متى، لا شيء يبدو واضحا.
أبو ظافر: قلبي معك يا ولدي، ما زلت صغيرا على أن تتحمل كل هذا العناء.
ظافر: أنا من اخترته، لبيتُ نداء الله، تعرفني كانت أمنيتي الحج. وكنت أملك القدرة على الحج. كان قلبي يرفرف هناك في سقف السماء، كنت مطمئنا وأنا ببيت الله، كنا نردد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك لبيك. لم نتوقف ساعة عن أن نردد التلبية، كنا نتسلى بالتلبية حتى تؤنسنا في وحشة الطريق.
يسمع طرق الباب، ينتبه ظافر خائفا
ظافر: (خائفا) من الطارق، هل هم اللصوص؟، هل جاءوا إلى هنا؟
أبو ظافر: (يهدئه) لا يا ظافر، لم يأتوا إلى هنا، ولن يأتوا. سأفتح الباب، ربما يكون فهد أو أي أحد من القرية.
يقوم أبو ظافر ليخرج لفتح الباب وما زالت ملامح الخوف على وجه ظافر، لحظات ويدخل أبو ظافر ومعه إحسان. يستغرب ظافر من وجود إحسان
ظافر: (باستغراب) إحسان؟
إحسان: نعم. جئت أسألك عن أبي.
ظافر: (بحزن) أبوك؟، لا أدري يا إحسان أين هو الآن.
إحسان: أكان بخير؟
ظافر: هو وكل أهل القرية، كانوا بخير قبل أن يهجم لصوص الطريق.
إحسان: هل كان يشتاق لي؟
ظافر: لك ولدانة، وللقرية.
إحسان: (يتنهد) أنا اشتقت له. متى يعود؟
أبو ظافر: (وهو يمسح على رأسه) قريبا، قريبا إن شاء الله.
إحسان: لقد تأخر، كل يوم دانة ترسل له سلة من سلالها عبر البحر، وتغني له أغنية الدوخلة، لكنه لم يعد.
ظافر: سيعودون، سيسمعون أغانيكم، ستصلهم سلالكم وتعيدهم من تيههم، سيعودون يا إحسان. سيعود أبوك وتعود أمك، وكل أهل القرية. أتظن أن الله سيترك عبيده، هم ضيوف الله.
يسمع صوت طرقات شديدة على الباب، يندهشون من قوة صوت الطرق ويسمع من الخارج أصوات نساء ورجال ينادون
الأصوات: (من الخارج) ظافر.. يا جبان، افتح الباب.. افتح يا ظافر
يستغربون من الأصوات والطرق المتواصل على الباب، يركض إحسان للخارج لفتح الباب، يدخل رجل1 ورجل 2 ورجل 3 وإمرأة1 وإمرأة2 من أهالي القرية وعلى ملامحهم الغضب
أبو ظافر: ما الذي يحدث؟، ما الذي يغضبكم هكذا؟
رجل2: ابنك، ظافر
ظافر: (باستغراب) أنا؟، وما الذي فعلته؟، أنا للتو عدت
رجل3: عدت وحدك وتركت الجميع
إمرأة1: كان يفترض بك أن تلحق بهم وأن لا تعود بدونهم.
رجل1: جبان.
إمرأة2: أنت شاب وتركتهم وحدهم دون مساعدة.
أبو ظافر: وكيف حكمتم عليه بأن جبان وتركهم؟
رجل1: وهل يحتاج الأمر إلى حكم؟، ولدك جبن وعاد وحده. لا تدافع عنه.
أبو ظافر: أنا لا ادافع عنه كونه ولدي، أدافع عنه كونه شاب عاد بعد ما واجه اللصوص ووعرة الطريق، عاد لأنه ظل طريقهم.
إمرأة2: ولماذا لم يكن معهم، لماذا الطريق، ولماذا يعود هو والباقي لا؟
أبو ظافر: بدل التهم التي جئتم بها لتنكأوا جرحه، كان يجب أن تسألوه ليجيب عن حقيقة ما حدث. أنتم لم تعطوه فرصة للكلام.
رجل2: قال كل ما لديه في الساحة، سمعنا كلنا ما قاله.
إمرأة1: لم أصدق ما قاله، إنه يكذب
ظافر: (مصدوما) وما الذي يدعوني للكذب؟، لم اعتد على الكذب منذ صغري، وعاهدت الله عند بيته على أن لا أكذب أبدا. لماذا أكذب؟
رجل3: أنت تعرف عن أهلنا ولا تريد أن تخبرنا شيئا.
ظافر: أتظنون أني سأتركهم وأهرب خوفا؟، أترك أهل قريتي؟
رجل1: وها أنت تركتهم وعدت وحدك.
أبو ظافر: ظافر تم تقييده لأنه قاوم اللصوص، تركوه في عراء الصحراء مقيدا في شجرة، فافترقوا عنه.
رجل2: أنا لا اصدق هذه الرواية. ربما تصدقه أنت لأنه ابنك.
أبو ظافر: أصدقه لأنه لا يكذب، تعرفونه أنتم أيضا. ما بكم؟، ما الذي غيركم؟
إمرأة2: لم يغيرنا سوى الخوف على أهلنا الغائبين. غيرنا أن ابنك عاد وأبناؤنا لم يعودوا.
أبو ظافر: ما ذنبه؟، هل أجرم حين عاد؟
رجل3: لا بد أن يترك القرية (بإصرار) نعم، لا نريده في القرية حتى يعود الآخرون.
ظافر: (مصدوما) وماذا إن لم يعودوا؟
رجل2: لن تعود للقرية، ارحل عنها.. ارحل عن قريتنا
أبو ظافر: (بصدمة) تطردون ابن قريتكم؟، ما بالكم؟
رجل1: سمعت ما قلنا يا أبا ظافر، لا نريد ابنك بيننا حتى يعود الغائبون.
أبو ظافر: (بغضب) كيف؟
ظافر: (باستسلام) لا بأس يا أبي، إن يرضيهم ويريحهم، سأترك القرية حتى يعودوا.
أبو ظافر: كيف تتركني بعد أن عدت؟
ظافر: سأعود، لن أغيب. المهم أن يشعروا بالراحة، كيف أعيش بينهم وهم يشعرون أن خذلتهم وخيبت أملهم.
إحسان يمسك ظافر من يده
إحسان: (برجاء) لا يا ظافر، لا تغادر القرية.
ظافر: الأفضل أن أغادر
يقبل ظافر رأس والده ويبتسم له
ظافر: وداعاً يا أبي، لكن أكيد سنلتقي قريبا.
أبو ظافر: (يمسك يده) لا يا ظافر، لا تتركني.
رجل3: نحن مصرون على أن لا يبقى.
رجل2: نحن نقدرك ونجلك يا أبا ظافر، فلا تخسر تقديرنا لك.
يصمت أبو ظافر مصدوما وهو ينظر إليهم وإلى ظافر الذي يبادله النظرات ويخرج من البيت مكسورا، يلحق إحسان بظافر مغادرا، يخرج أهل القرية من المكان ويبقى أبو ظافر وحده، مصدوما مما حدث – إظلام
المشهد السادس
تفتح الإضاءة على القرية، وعلى ذات المكان في المشهد الأول، حيث يسمع صوت أمواج البحر الخفيفة. ونرى دانة تقف حزينة قلقة وفي يدها سلة سعف جديدة نمى فيها العشب (دوخلة)، تهزها وهي تردد
دانة: (تغني بحزن) دوخلتي حجي بي، حجي بي، ليمن يجي حبيبي، حبيبي، حبيبي راح مكة، مكة المعمورة، فيها السلاسل والذهب والنورة
تتنهد تنهيدة حزن عميقة
دانة: ألم تعدني يا بحر أن يعودا، مرت الأيام وما زال الغائبون غائبين لم يعودوا، كنت أظن أني كلما صنعت دوخلة جديدة ونمى العشب بها واخضر ورميتها إليك قربت عودتهم. لكنك لم تف بالوعد يا بحر.
يدخل عليها غانم من الجهة الأخرى متلهفا يقترب منها
غانم: يبدو أنك يئست يا ابنة العم.
تفزع دانة منه وتدور
دانة: (مفزوعة) غانم؟
غانم: نعم، غانم، ابن عمك يا دانة
دانة: (بضيق) ما الذي أتى بك إلى هنا؟
غانم: المكان لكل أهل القرية، لا تملكين فيه حق سؤال أي أحد، ما الذي أتى به.
دانة: لقد أفزعتني.
غانم: إسم الله عليك يا ابنة العم.
دانة: ماذا تريد؟
غانم: لا شيء، جئت أطمئن عليك، أعرفك تلزمين هذا المكان منذ غاب والداك ولم يعودا. تأخرا، أليس كذلك؟
دانة: نعم، كثيرا
غانم: أولم تنفع كل دوخلاتكم التي رميتموها في البحر؟، لقد ملأتم البحر بها.
دانة: (مستنكرة) كلنا رمينا دوخلة لسلامة الغائبين، إلاك.
غانم: تكفي سلالكم يا دانة. دوخلتي لن تفيد في الأمر شيئا.
دانة: يبدو أن لا أحد يهمك من الغائبين.
غانم: كل أهل القرية يهمونني.
دانة: (تقاطعه) وأبي؟
غانم: يهمني، إنه ابن عمي وابو دانة الجميلة التي رفضتني.
دانة: يا غانم، الزواج قسمة ونصيب، أم أنك لا تؤمن بالنصيب؟.
غانم: أؤمن، ولكن لا أؤمن بالأذى، أنت آذيتني يا دانة
دانة: أن اقول لا، يعني أني أؤذيك؟، لمَ تؤذي اللا؟
غانم: (بغضب) لأنك جرحتي كبريائي. ظننت أنك ترغبين بي زوجا، عشت على هذا الحلم، لكنك اخترت فهد علي، ما الذي يملكه فهد ولا أملكه أنا؟، إنه مجرد ابن بائع دكان.
دانة: يملك ما لم تملكه صدقني، يملك قلبا أبيضا
غانم: وهل كشفت عن صدري ووجدت السواد؟
دانة: يا ابن عمي، كل ما تفعله يعكس سواد قلبك. كلنا نعرف أنك لا تتمنى عودة أبي، لأنك طامع في العمودية.
غانم: (غاضبا) هو حقي
دانة: حقك أن تتمنى موت ابن عمك؟، أليس هذا هو السواد بعينه؟.
غانم: حقي يا دانة أن أكون عمدة، أنا ابن عمدة، أبي كان عمدة القرية قبل أبيك، وأنا أحق بها من أبيك، كبرت وصرت رجلا.
دانة: وهل تظن أنك تستحق العمودية وانت بهذه الأخلاق يا ابن عمي؟، أنت لا تصلح، لا تصلح
غانم: (غاضبا يصرخ) بل أصلح، أنا العمدة، أنا العمدة يا دانة. ولن يعود أبوك من رحلة الموت، لن يعود..
يغادر المكان راكضا في نفس الوقت الذي يدخل فيه أبو ظافر وفهد، يتوقف ينظر لهما شزرا ويغادر، تبكي دانة، يقتربان منها قلقين
فهد: لمَ تبكين يا دانة؟
أبو ظافر: هل آذاك؟
دانة: (متهربة) لا
فهد: لكنك تبكين
دانة: تأخروا كثيرا، قلبي يوجعني عليهم.
أبو ظافر: (يتنهد) لم يرهم أحد، حتى الذين عادوا من الحج، استقصينا الأخبار ولا أثر لهم.
دانة: (وهي تبكي) أيكون ثمة مكروه حدث؟
فهد: كيف نعرف ذلك يا دانة. لا نعرف أين استقر بهم المقام، ولا ما حدث لهم. علينا الانتظار
دانة: سئمت الانتظار، ليتني أملك السماء لأطير إليهم أينما هم.
أبو ظافر: أنا قلق عليهم، قلق على ظافر أيضا الذي نبذه أهل القرية وطردوه، لا أعرف أين مستقره.
فهد: ما رأيك أن نذهب للبحث عنهم؟ أنا وآخرون من القرية، نتفق مع دليل يعرف الطريق.
دانة: (بلهفة) نعم يا فهد، لا تتركوهم، قد يحتاجون لمساعدتنا فعلا.
أبو ظافر: ونخاطر بكم أيضا، الطريق ليست آمنة، أبناء الشياطين يملؤون الطريق إلى مكة، قطاع طرق وأشرار لا يملكون ذمة ولا ضمير. ما الذي سيجعلنا نأمن عليكم؟ ثم ما أدراكم أين يكونون، بالتأكيد تاهوا.
فهد: (بيأس) وما الذي سنفعله؟، انتظارنا هنا لا معنى له.
دانة: أنا ملأت البحر بالسلال، كل يوم آتي وأرمي دوخلة جديدة، وأغني للبحر لكي يعيد لي أهلي وأهل القرية.
يدخل أهل القرية من كل مكان وهم يحملون أيضا سلالا جديدة وعلى وجوههم الخوف والقلق، تنتبه لهم دانة وأبو ظافر وهم يتوزعون في المسرح وهم يرددون
أهل القرية: (يرددون وهم يهزون السلال بأيديهم بلهجة حزينة) دوخلتي حجي بي، حجي بي، ليمن يجي حبيبي، حبيبي، حبيبي راح مكة، راح مكة..
دانة: أحباؤنا لم يعودوا، رغم سلالنا الخضراء، غناؤنا للبحر والرمل والسماء
رجل1: رغم صلواتنا وتهجدنا
فهد: رغم أمنياتنا واحلامنا كل يوم
أهل القرية: (يرددون وهم يهزون السلال بأيديهم بلهجة حزينة) دوخلتي حجي بي، حجي بي، ليمن يجي حبيبي، حبيبي، حبيبي راح مكة، راح مكة..
إظلام
المشهد السابع
تفتح الإضاءة على نفس المنظر السابق، عند البحر حيث نرى غانم يقف مع حمدان وعلى وجه غانم ملامح الغضب والضيق
حمدان: إهدأ يا غانم، الغضب ليس هو الغاية لحل أي مشكلة
غانم: هل تريدني أن أفرح، أضحك، أصفق لما يفعلونه.
حمدان: قلت لك مراراً، لا تجعلهم يفقدون ثقتهم فيك. غضبك سيجعلك شخصا بغيضا
غانم: لا يهمني من أمرهم شيئا، المهم أن ننهي هذه القصة.
حمدان: القصة انتهت
غانم: وما أدراك؟
حمدان: مر وقت طويل على غيابهم، لن يعودوا
غانم: أشعر باطمئنان أنهم لن يعودوا، لكني ما زلت قلقا، أخاف حتى من سلالهم التي يرمونها في البحر. أخاف أن تعيد الغائبين.
حمدان: (يضحك) ألهذه الدرجة؟، تضحكني يا غانم، خوفك هذا سيوقعك في المشاكل، سيظن أهل القرية أنك شخص ضعيف، هش، تخاف
غانم: (غاضبا) أنا لست ضعيفا ولا هشا، أنا قوي وسأثبت للجميع أني القوي.
حمدان: يا غانم، ما تفعله لن يثبت إلا انك ضعيف. تخاف؟، إياك أن تقولها. أنت لا تخاف.
غانم: هل أكذب، أنا فعلا خائف. كيف أدعي القوة وأنا بداخلي طوفان من الخوف والقلق.
حمدان: لا تظهر الخوف لهم، أنت العمدة، لا بد أن تكون أفضل واقوى من أبي إحسان، أنسيت أبا إحسان وقوته؟، الكل يهابه.
غانم: وكيف أكون مثله؟، بصراحة أنا لست بقوته وهيبته.
حمدان: تحتاج للوقت لكي تكون بهيبته. تحتاج لأن تتمالك أعصابك. تعرف كيف تخرج تغضبك، وكيف تكتمه.
غانم: (بحدة) وكيف اعرف كل هذا يا حمدان، أنت يدي اليمنى، عليك أن تنتشلني من هذا الضياع (يصرخ) أنا ضائع.. ضائع
حمدان: اخفض صوتك حتى لا يسمعونك وأنت تصرخ بأنك ضائع. أنت لست ضائعا، ويكفي ما أنت عليه. اثبت هيبتك يا غانم، أنت قوي
تدخل إمرأة2 وفي يدها دوخلة تتجها ناحية البحر، تمر عليهما دون أن تتوقف، وتتجه مقابلة البحر وتردد الاهزوجة
إمرأة2: (تغني) دوخلتي حجي بي، حجي بي ..
ينظر لها غاضبا يتجه لها، يمسكه حمدان ويومئ له بأن يهدأ، يقترب غانم من إمرأة2
غانم: (يقاطع غناءها) ما الذي تفعلينه؟
إمرأة2: (تتوقف عن الغناء) غانم؟
غانم: (بحدة) السيد غانم، أنا عمدتكم وعليك أن تبدي احترامك لي.. أنا اسمي السيد غانم. قلت لك ما الذي تفعلينه؟
إمرأة2: كما ترى يا سيد غانم، أرمي دوخلتي للبحر عله يعيد الغائبين.
غانم: (بغضب) كفى هذا الهراء، ملأتم البحر بهذه السلال العفنة، كل يوم ترمون سلالا ليعيد البحر الغائبين، ولم يعد الغائبون. يكفي.
إمرأة2: (مصدومة) ما الذي تقوله يا سيد غانم، إنه تقليد لأهالي القرية منذ سنوات جدي وجدك.
غانم: وإن يكون، هو هراء. هراء.
إمرأة2: ودوخلتي ما الذي أفعل بها الآن؟، لقد صنعتها لأرميها في البحر.
غانم: زيني بيها بيتك، افضل من رميها للبحر الذي سيلفظها يوما ما
يسمع صوت أهل القرية من الخارج يقتربون وهم يرددون ذات الأغنية
الجميع: (من الخارج) دوخلتي حجي بي، حجي بي، ليمن يجي حبيبي
ينتبه غانم للصوت ومعه حمدان وإمرأة2، لحظات ويدخل أهل القرية وهم يحملون سلالهم ويرددون الأغنية، ومعهم فهد ودانة وإحسان وأبو ظافر وهم يحملون السلال المدلاة في حبل
الجميع: حبيبي راح مكة، ومكة المعمورة
يتوسطون المسرح كلهم وغانم ينظر لهم غاضبا بينما يراقب حمدان ما يدور، فجأة يصرخ فيهم غانم
غانم: (يصرخ) كفى، كفى.. ما تفعلونه لن يجدي نفعا
أبو ظافر: (مستغربا) ما الذي تعنيه؟
غانم: هذي السلال التي ترمونها للبحر لن تجدي نفعا، لن تعيد لكم الغائبين.
دانة: نحن نتشبث بالأمل، بالدوخلة التي نمى عشبها وصار أخضرا، عله يخضر درب العائدين
غانم: لكنهم لم يعودوا، ولن يعودوا
فهد: سيعودون رغما عنك، رغما عن أمنيتك التي أضمرتها وخرجت من فلتات لسانك.
غانم: (مصدوما وبارتباك) أنا؟، لا.. أنت..
حمدان: (يتدخل) هذا الكلام لا يليق، كيف تتهم السيد غانم عمدة القرية بهذه التهمة؟، عيب.
دانة: من قال أنه عمدة القرية، العمدة عائد من غيبته مهما طالت. ثم من قال أنه يصلح لأن يكون عمدة قريتنا؟
غانم بغضب يهم بالرد لكن حمدان يوقفه
حمدان: ما الذي تقولينه يا دانة، أهكذا تعاملين عمدة قريتكم، أهكذا رباك أبو إحسان؟
إحسان: (بغضب) لا تذكر بي بسوء
حمدان: أنا لم أذكره بسوء، لكن عليكم أن تنصاعوا لأوامر السيد غانم. لقد طلب من السلطة أن يأتوا بحراس يحرسون البحر حتى لا تلوثوه بالسلال
ينظر غانم لحمدان مستغربا فيومئ له حمدان بأن يسايره
أبو ظافر: (مصدوما) حراس؟، لم يدخل قريتنا حراس من السلطة منذ سنوت. لماذا تمنع الناس من البحر؟، هو مكان مناجاتهم
غانم: ما تفعلونه خارج العقل، البحر امتلأ بالسلال ومن واجبي حمايته.
فهد: وأنت من يحمي البحر؟، يا غانم كلنا نعرفك.
غانم: (بغضب) احترم نفسك. قل السيد غانم. أنا الآن العمدة، لأن لا أحد يصلح أن يكون عمدة غيري، إحسان صغير، ودانة بنت.
فهد: نقبل أن تكون دانة عمدة القرية على أن تكون عمدتها.
غانم يبدو مصدوما، ثم يضحك بهستيريا ويضحك حمدان معه
غانم: دانة، إنها فتاة لا تعرف كيف تدير نفسها، فكيف تدير القرية بأسرها، مجنون انت؟.
أبو ظافر: المجنون من يرضى بك يا غانم عمدة للقرية.
غانم: (غاضبا) سأريكم من يكون غانم، سترضون بي غصبا عنكم. سآتي بحرس السلطة ليحموا البحر منكم ومن عبثكم هذا.
إحسان: سيعود أبي ولن تتمكن من فعل شيء.
غانم: أبوك لن يعود، أبوك مات، مات، ألا تعي ذلك؟. لن يعود. أنا العمدة الآن.
يهم بالمغادرة وهو يردد غاضبا
غانم: (بغضب يردد) أنا العمدة، أنا العمدة الآن
فجأة يصطدم بدخول ظافر المكان، يراه يصدم، بينما يبدو الفرح على وجه أبي ظافر
غانم: عدت؟، ألا تخجل، طردوك من القرية وتعود بكل هدوء كأنك لم تفعل شيئا.
ظافر: أنا لم أفعل شيئا فعلا، لكنك حرضت الناس علي، بسببك طردت من القرية. أعرفك يا غانم. تكره أبي وتكرهني، لا تحب غير ذاتك.
حمدان: لم يحرض السيد غانم أحداً عليك، لا تفتر عليه.
ظافر: كلاكما من صنف واحد، لا تدعي الطيبة يا حمدان. أنت من يحرض غانم على كل ما يفعله، هو لا يفعل أي شيء دون تحريضك.
حمدان: ما هذا الافتراء.
يقترب أبو ظافر من ولده ظافر سعيدا
أبو ظافر: الحمد لله أنك عدت بخير.
ظافر: أخبرتك يا أبي أني لن أعود إلا بخير، وسأعود مع الجميع.
فهد ودانة وإحسان وكل أهل القرية ينظرون لظافر مستغربين بينما تبدو الصدمة على غانم وحمدان، من البعيد يسمع صوت التلبية
أصوات: (من البعيد وتقترب بالتدريج) لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد..
تتهلل أسارير الجميع بينما الصدمة ما زالت على وجهي حمدان وغانم
دانة: (بفرح) عادوا؟
ظافر: كلهم، كل حجاج القرية، عادوا، فعلت ما استطيعه لأعيدهم، بحثت وبحثت مع دليل يعرف كل أسرار الصحراء وطرقاتها حتى وجدناهم تائهون في مضارب العرب، لا يعرفون الطريق القرية
إحسان: (فرحا) أمي وأبي عادا، عادا
فهد: (بفرح) وأبي (لرجل1) وأبوك، و(لرجل3) أمك
ظافر: عادوا كلهم محملين بالشوق إليكم، نسوا ما لقوا من أهوال وعذابات. نسوا كل الوجع، كل الخوف، كل اليأس، عادوا يا أهل القرية
غانم: (غير مصدق) أنت كاذب، نعم، كاذب. تكذب عليهم حتى يسمحوا لك بالبقاء في القرية
ظافر: قل لك أني لم أعتد الكذب (بصوت أعلى) عادوا ألا تسمعون؟، اسمعوا تلبياتهم
يصمع صوت التلبية من بعيد
الأصوات: (تردد من بعيد) لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك
يرفع أهل القرية سلالهم وهم جميعا ينظرون خلف ظافر الذي يدير وجهه لذات المكان، كل أهل القرية على وجوههم ملامح الفرح وهم يدلون سلالهم وينشدون
أهل القرية: (يرددون) دوخلتي حجي بي حجي، ليمن يجي حبيبي، حبيبي راح مكة، ومكة المعمورة، فيها السلاسل والذهب يا نورة
يجلس غانم على الأرض خائفا وعاجزا عن فعل أي شيء هو وحمدان وهما يراقبان ما يدور.. يتحرك أهل القرية بخطوات ثابتة ومتناسقة باتجاه واحد وهم يحملون سلالهم والرعب على باد على وجه غانم، يخرج الناس جميعا وهم يرددون اهزوجتهم، يبقى غانم وحمدان مكسورين محبطين وحدهما على المسرح، ولحظات ونسمع أصوات زغاريد الفرح في الخارج تتعالى مع سقوط سلال السعف (الدوخلة) من الأعلى لتشكل قضبانا تحبس غانم وحمدان داخلها.
إظلام
انتهت في 29 يناير 2023
[1] الدوخلة كلمة تطلق على إناء من خوص النخل يملأ بقليل من التراب والسماد وتتم زراعة البذور فيه مع بداية مغادرة أقارب الأهالي لأداء فريضة الحج قديماً. وتسمى في بعض دول الخليج بالحية بية، ويغني الأطفال (حيِّه.. بـيّـه.. راحت حيه.. وجات حيه)
رائعة