قطار وبالون طفل
شعر يونس أن وجعا يسكن صدره، ورأسه تطوف فيها صور وأحاديث، بدا مهموما وهو يقود سيارته دون أن يدري أي طريق يسلكه، هو في عالم آخر غير هذا العالم، حتى الأغاني التي كان يسمعها من )السي دي( الوحيد في سيارته صارت تعاد مراراً. مر الوقت وهو يذرع الشوارع بلا قرار، حتى وجد نفسه أمام محطة القطار. أوقف سيارته، نزل منها، واتجه لبوابة الدخول حتى وصل لشباك التذاكر:
-الرياض
استلم تذكرته واتجه لرصيف القطار المغادر إلى الرياض بانتظار موعد الرحلة. هو لا يدري لماذا اختار القطار، ولا حتى الوجهة، ولماذا اختار السفر أصلًا والآن بالذات.
صعد القاطرة، وبحث عن كرسيه، جلس وأرجع رأسه للخلف، أغمض عينيه. قرر ألا يفتحهما حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة، لكنه اضطر لفتحهما حين شعر بشخص يمر به ليجلس على الكرسي بجانبه، واضطر أيضًا قبل يعود لإغماضته أن يبتسم للرجل الأربعيني الذي بادله الابتسامة
سار القطار على سكته الحديدية، ما كاد يسود الهدوء في القطار، حتى قطعته أصوات بعض الأطفال، أو أصوات جوالات الركاب وهم يتابعون فيديوهات السوشيال ميديا. فجأة، سمع صوت طفل يصيح:
-يا كلبة، اعطيني لعبتي
فتح عينيه، حرك رأسه باتجاه الصوت فرأى طفلين، بنت وولد، بجوار والدتهما المشغولة بجوالها يتشاجران على لعبة. هز رأسه أسفا، انتبه للرجل للأربعيني بجانبه يطل أيضا ليرى ما يدور، هز الرجل رأسه أيضًا أسفا والتفت إليه بنظرة تضامن. عدل جلسته، نفث زفيرا مرا
-الواحد يهرب من البيت والمشاكل، ويجي يلاقي المشاكل لاحقته.
صمتَ قليلا دون أن ينتظر رد الأربعيني الذي انتبه أنه ينظر له بفضول.
-شوف، أمهم ما كأنها تسمع، ولا تشوف، منفصلة.. كلهم زي بعض.
ما زال الطفلان يتشاجران على اللعبة، أمسكها الولد ورماها بعيدا فسقطت في حضن الأربعيني، رفعها باستغراب، أخذها يونس منه في الوقت الذي وصل الطفل بالقرب من يونس ومد يديه:
-جيبها
قرب يونس الطفل إليه، ورمقه بنظرة غضب:
-إذا ما تسكت أنت واختك وتخلينا نرتاح، ما بعطيك إياها.. فهمت؟
هز الطفل رأسه خائفا. أعطاه يونس لعبته، أخذها الطفل وهرب سريعا، بينما أطلق يونس ضحكة، نظر له الأربعيني باستغراب.
-تصدق، قدرت أخوف أطفال الناس وما أقدر أخوّف أطفالي.
تنهد ثم أكمل كلامه والأربعيني يراقبه صامتا:
-ساعات أحس إن ما عندي شخصية، لا مع أولادي ولا مع زوجتي. أبو ضعيف وزوج ما له قيمة، وجوده زي عدمه.
اعتدل الأربعيني في جلسته ليواجه يونس كمن يبدي اهتماما لما قيل، لكن يونس رفع كفه ليوقفه عن أي رد:
-لا تتكلم، أنا كنت محتاج لواحد أفضفض له، واحد أقول له كل اللي في قلبي من غير ما يقاطعني.
حدق الأربعيني في الكف المرفوعة، وأسند ظهره متراجعًا، وهو ينظر ليونس الذي أكمل كلامه:
-بقول لك قصتي من أول، من أول ما حسيت أن المصايب تلاحقني، يعني من زمان.. بس بشرط لا تقاطعني
حينها بدأ يونس بالحكي، حكى للأربعيني حكايته منذ تخرج من الثانوية ولم يجد جامعة تقبله، عن عمله في وظائف عدة، عن الجهد الذي بذله ليجمع مهر زوجته، ابنة عمه التي ما أن تزوجها حتى تغيرت طباعها، ليست كما أخبرته أخته عنها، ليست الفتاة الهادئة المؤدبة. ابنة عمه قلبت حياته رأسا على عقب، هي الآمر الناهي، وهو الذي عليه أن يطيع، صارت سيدة وهو العبد، هكذا وصف يونس علاقته بزوجته للأربعيني الذي ظل ينظر بتمعن يراقب انفعالات يونس أثناء حديثه. أخبره أيضا عن الخيبات المتكررة، الخسارات، عن العمل الذي التحق به وطرد منه، عن زملاء العمل الذين وشوا به عند مديره، عن وظائفه المتلاحقة لكي يرضي سيدته (زوجته)، واتهامها إياه بأنه يخونها حين وجدت رباطة شعر في سيارته، رغم أنها تعرف أنه يعمل سائق تاكسي ويركب معه ركاب من كل الأصناف. عن أولاده الثلاثة الذين لم يشعر يوما أنهم يبادلونه المحبة بسبب زوجته (العزيزة) التي صورته في أذهانهم أباً لا يهتم بهم، لا يعطيهم، لا يمد لهم يد الكرم، ولا يد المحبة.
ظل يونس يحكي دون توقف، ودون أن يترك فرصة للأربعيني، لم يترك تفصيلا في حياته إلا أخبره به، عن تفكيره في الانتحار مرة، أو في قتل زوجته، أو الهروب قبل أن تدرك زوجته نيته وتخبئ جواز سفره. لم يتوقف يونس عن الحديث حتى وصل القطار لمحطة الرياض، والرجل الأربعيني ينظر له بإمعان حتى أنه لم يشرب علبة العصير التي وضعها على الطاولة أمامه منذ أن صعد إلى القطار. صمت يونس واتجه بشعور راحة للأربعيني:
-الحمد لله على السلامة.. بس استر على ما واجهت، انت ما تعرفني ولا أعرفك، ما كأنك سمعت شي. زين؟
حينها اقترب شاب منهما، ينتبه الأربعيني له ويبتسم، يحرك الشاب أصابعه ببعض الإشارات لم يفهمها يونس، فيرد الأربعيني بحركات تشبهها أيضا، أدرك لحظتها يونس أنها إشارات للصم. تساءل مستغربا:
-من فيكم أخرس؟، أو اثنينكم خرسان.
-أخوي، أخرس. عسى ما انزعجت منه؟
رد الشاب بينما جحظت عينا يونس دهشة، أشار للأربعيني متسائلا:
-أخرس، يعني أنا كنت أسولف طول الوقت مع أخرس؟
نظر الأربعيني مبتسما ليونس.
عند رصيف القطار، ودع يونس الأربعيني وأخيه بتلويحة، وحين غادرا، أخذ يونس نفساً عميقا، ثم أخرج كل الهواء الذي في صدره.. ضحكة مكتومة بدت على ملامح وجهه، لكنه لم يستطع كتمها طويلا، فخرجت الضحكة مدوية، قهقهات سمعها كل من على الرصيف.
خارج المحطة، فتح يونس صدره ويديه على اتساعهما وترك الهواء يتسرب إلى كل أجزائه، وجد نفسه متحررا من كل حمل، وجد نفسه خفيفا، بلا عبء. خفيفا كبالونة طفل فلتت من يديه وحلقت عاليا، عاليا.
رائعة