حين كانت الدراما محصورة في المسرح، في نهاية القرن التاسع عشر، كان المسرح يقدم موضوعات تنزع للشاعرية المفرطة، وشخصيات أقرب للشعراء والآلهة، يتحدثون لغة رفيعة لا تشبه شخصيات الواقع، وهو ما شكل هوة بين الدراما بمفهومها المفترض والمسرح، حتى صفق الكاتب المسرحي النرويجي هنريك أبسن الباب في وجه أوربا بالكامل، في مسرحيته (بيت الدمية) التي اعتبرت آنذاك أنها ردمت الهوة بين الدراما والمسرح وبينهما وبين المجتمع بكل شرائحه، كما أنها كانت منطلقا للواقعية في المسرح التي تحولت إلى مدرسة لها نظرياتها وخصائصها، ويبدو أنها كانت بداية أيضا للاتجاه الواقعي في كل أشكال الدراما من سينما وتلفزيون لاحقا. فالمسرحية التي قدمت شخصيات واقعية على الخشبة، تنطق وتضج حياة، فيها الخير والشر، فليس ثمة مطلق في هذه الشخصيات التي قد نراها أو نواجهها في حياتنا اليومية، وهو ما وهب للنص أهميته، التي جعلته من أهم النصوص المسرحية في أوربا، وكان صرخة في وجه تهميش المرأة وتقييد حريتها، وكان له الأثر الفعلي على تغيير النظرة للمرأة ودورها الاجتماعي.
السينما بدأت في نفس الحقبة التي ظهرت فيها المسرحية كعرض مسرحي، فلو أن السينما ابتكرت قبل (بيت الدمية) وغيرها من النصوص المسرحية التي شكلت هذه المدرسة الواقعية، لنقلت لنا المدارس السائدة مثل الطبيعية والرومانسية إلى السينما، فصارت السينما تتناول قضايا النخب والشعراء والآلهة (امتدادا للدراما اليونانية)، ولما كان الجمهور ارتبط بالسينما هذا الارتباط الذي نشهده اليوم، فالسينما قدمت لهم الحياة كما يعرفونها، أشخاص ومظاهر وصور، فالواقعية هي أقرب للجمهور لما تحمله من سمات وخصائص.
وتعرف العراقية الدكتورة شذا سالم في كتابها (الواقعية وتطبيقاتها في المسرح العراقي) بأنها “مناقشة واقعية النفس البشرية وفق معطيات العصر وتياراته المختلفة ثقافية ودينية واقتصادية، واخلاقية، وتقاليد، وعادات. وتعنى بتصوير المشكلات الرئيسة للوجود الاجتماعي في صورة صادقة مع الواقع الاجتماعي والانساني على نحو نموذجي فني”، فالواقعية لا بد أن تفهم طبيعة العصر وتتناول في ما تقدمه كل ما يرتبط بهذا العصر من واقع اجتماعي واقتصادي وعادات وتقاليد، وتقرأ الواقع بكل تعقيداته وعاديته. ولكن لا بد أن نؤكد على النموذجي الفني التي ذكرته الدكتورة شذا، فالواقعية لا تعني نقل الواقع بسطحية، ولكن أن يكون للمشتغل مسرحيا أو سينمائيا أو تلفزيونا قراءته المتعمقة للواقع، بحيث تكون للواقعية أبعادها الفلسفية والوجودية، وأن يكون العمل الواقعي تحليلا للواقع لا ناسخا له بشكل مجرد.
حين نعود لتاريخ السينما، يتبين لنا أنها ولدت واقعية، فقد جرب الإخوان لوميير كاميرتهم بتسجيل يوميات الناس، مثل حركة العمال في خروجهم ودخولهم إلى المعامل، أو تصوير ما في الطبيعة كالبحر وأمواجه أو أوراق الأشجار، أو حتى مسير القطار. كان ثمة تركيز على تسجيل الواقع، قبل أن تظهر الأفلام الروائية، فالأفلام التسجيلية التي كانت بدايات السينما وما زالت حاضرة، هي أفلام واقعية تنقل الواقع بعين سينمائية. وبعد اختراع التلفزيون، ظهرت أولى المسلسلات التلفزيونية على الشاشة (The queen’s messenger) في العام 1928 والتي تحول من مسلسل إذاعي إلى التلفزيون ونجح لأنه كان أكثر قربا وأثرا في الناس، ووجد صناع الدراما التلفزيونية أن الواقعية هي أقرب الطرق لروح ووجدان المشاهدين.
ولا يعني أن الواقعية وحدها كفيلة بنجاح الأعمال التلفزيونية والسينمائية، لكنها الأقرب، خاصة للمشاهد العربي، الذي لا يبدو جاهزا لتلقي أي عمل عربي خارج إطار الواقعية، فلو طالعنا المسلسلات التي نجحت وظلت في ذاكرة المشاهد العربي، لتأكدنا أنها أعمال واقعية. فمنذ المسلسل العربي الأول (هارب من الأيام) الذي كتبه ثروت أباظة وأخرجه حسام الدين مصطفى عام 1963، والذي كان يحكي حكاية الطبال الفقير الذي يواجه سخرية من أهل قريته، وحتى مسلسلات هذا العام الجاري، نجد أن المشاهد يميل كثيرا للمسلسلات التي تقدم له حبكة بسيطة بعيدة عن التعقيدات، والمسلسلات التي يشاهد فيها من يشبهونه على الشاشة، ويشاهد فيها بيوتا تشبه بيته، وشوارعا كشارعهم، وحوارات تشبه ما يسمع في المقهى أو في الدكان أو حتى في داخل بيته.
وبعيدا عن كوني جزءً من مسلسل (خيوط المعازيب) كمشارك في ورشة الكتابة، فأنا أرى أن أكثر ما ساهم في نجاح المسلسل هو الواقعية المفرطة التي شاهدها الجمهور عبر حكاياته وشخصياته وتفاصيل حياة الشخصيات، وعبر اللهجة والتفاصيل الغنية التي قدمها المسلسل، وهو ما جعل مسلسلات عدة تنجح أيضا، مثل (مجاديف الأمل) سابقا، والأيقونة الكويتية (درب الزلق)، و(سكة سفر) بأجزائه الثلاثة و(جاك العلم)، وغيرها من المسلسلات التي تمكنت من خطف مشاعر المشاهدين. في الطرف الآخر، الواقعية لا تعني الهبوط بقيمة العمل للإسفاف، وتحويله إلى استراحة شباب، بحوارات بلا ضابط فني، وهوما شاهدناه من خلال مسلسلات عدة، فبحجة الواقعية أفرط الكتاب في تسطيح شخصياتهم، وحواراتهم، وحتى أحداثهم، وأكمل الممثلون سطحية العمل بأداء بلا روح، أداء بلا جهد. فالواقعية تعني أن نقدم الحياة بكل تفاصيلها لكن بعين فنية مبدعة ومبتكرة.
أضف تعليق