من أنا؟

من أنا؟

الشهقة الأولى

في إحدى مساءات حزيران 1973م الموافق لجمادى الأولى 1393هـ الربيعية، انطلقت شهقتي الأولى، وشهيقي الأول لهواء هذا العالم. كنت ساعتها بين يدي (رئيسة) ممرضة وقابلة البلدة ( القديح) التي ولد على يديها جيل، تحسست ساعتها دفء أمومة (زهراء) وحبها. أبي (أحمد) أختار لي عباس ليكون إسماً، كان يتيمن بالعباس بن علي (ع)، ويتمنى أن أمتلك شيئاً من شجاعته وقوته، لكن القدر لم يرأف بأمنية أبي، لأكون الأكثر جبناً بين أخوتي!!.

انتقلت الأسرة بعد عشرين يوماً من ولادتي للسكن في حقل نخيل، كان جدي لأمي فلاحاً يعمل فيه ويتخذه مسكناً، أمي وأخوتي لا زالوا يتذكرون “البردوي”، يتذكرون بعض طفولتهم فيه. لا أتذكر من هذا البردوي شيئاً لأننا هجرناه وأنا في الثانية من عمري، لكن حديث العائلة المتكرر عنه وعن بساطة العيش فيه، جعل منه رفيق طفولتي وجزءً منها، ويبدو أن علاقتي الحميمة بالنخلة مردها لتلك السنتين من عمري المبكرة. تنقلت العائلة في بيوت الإيجار، حتى استقر بنا الحال في بيت جدتي لأبي الذي سوره والدي بقطع الخشب، وسقّف غرفه الخشبية بألواح الصفيح، كان البيت واسعاً، و كان يكفي للعبنا وركضنا وشجارنا، ولذاكرة مثخنة بالطفولة.

نزعة السؤال

لا أتذكر غير هذا البيت الخشبي، أتذكر كيف كان ممراً للعابرين من شرق الحي إلى غربه، كان الجيران يستأذنون ويمرون، كانوا كأصحاب بيت. آنذاك تربت في نزعة السؤال، لم أكن أهدأ من أسئلتي، عن الموت والحياة وعن الخلود، كنت اريد أن أفهم واستوعب العالم كله، وكانت ليالي الصيف فرصة سانحة لطفل يرى السماء مكشوفة له، حيث كنا ننام جماعياً في الحوش، هروباً من حر الأماكن المغلقة.. كنت أراقب النجوم، أحلق فيها إلى عالم يتخطى حدود القرية، عالم غذاه التلفزيون الذي وصل بيتنا مبكراً، مما جعله مكاناً أليفاً للجيران الذين يقضون بعض مساءاتهم عندنا، وغذته حكايا أمي، وتعبها اليومي لتعين والدي على العيش وتحمل مسئولية أسرة تكبر كل ثلاث سنوات!، تعبها وهي تسافر يومياً إلى المدينة وتعود محملة ببضائع تبيعها لنساء القرية، كنا نرتدي ما يختلف، ونتميز عن الآخرين، فأمي جلبت آخر صيحات الموضة للحي. ومما تربحه من تجارتها ساهمت في تحويل البيت الخشبي الذي لم يكن يحمي من مطر وبرد، لم يكن يحمينا من طرقات المطر على سقف من صفيح، إلى بيت من حجر واسمنت، في غرف كثيرة مكيفة.

الأبجدية الأولى

في ذلك الحين تعلمت الأبجدية الأولى، ألف باء، A B، كنت أتهجى الكلمات قبل أن أدخل المدرسة، كنت أتصفح المجلات وأبحث عن الصور في مجلات أخي (إبراهيم)، حفزتني الكتب التي كانت تملأ غرفة أخوي علي وإبراهيم لأن أسرع في القراءة، لأكتشف العالم الجديد، كنت أستثمر بعض وقت راحتي من لعبي الطفولي، بتصفح المجلات الفنية، ومجلات سوبرمان. كنت أستغرب من ضخامة “فلسفتنا” و” اقتصادنا” وأنا أنزلها من على الرف وأتصفحها بحثاً عن الصور، و كنت أسأل: متى سأستطيع قراءة كل تلك الحروف والكلمات؟!.

“عصفور طل من الشباك”

مارسيل خليفة وأميمة الخليل
مارسيل خليفة وأميمة الخليل

تعرفت على فلسطين، وعلى لبنان، من أغنيات مارسيل خليفة التي كانت تصدح من غرفة أخي، كنت أسمع ” يه يه يه يا شوارع بيروت الحرب اليومية”، لأدرك أن المكان الأخضر الذي يشبه الحلم في المسلسلات اللبنانية القديمة يرزح تحت وطأة الحرب والرصاص، وأدركت أن ثمة أسرى في سجون الاسرائيليين حين كان أخي يردد مع أميمة الخليل ” عصفور طل من الشباك”، وصار حب فلسطين يكبر سنة بعد أخرى، وصار خوفي على لبنان يكبر أكثر كلما تابعت الأخبار بعيني طفل.

الكتاب الأول

كان الكتاب الأول الذي أنجزت قراءته وأنا في الصف الرابع الابتدائي هو كتاب ذو غلاف بني عن قصص الأنبياء، وكنت وُعدت من أخي بهدية إن أنا أكملت قراءته، قضيت جزءً كبيراً من شهر رمضان لقراءته.. ومذاك بدأت أكتشف الحرف ووهجه الذي يشدني إليه، اكتشفت قدرتي على ملاحقة الجمل وتركيبها، بدأت أخط على الورق أول قصة بصيغة” كان يا ما كان”، وكنت أبحث عن من يقرأها ويعطيني رأيه.. لم أجد غير إبراهيم لأدس له الأوراق من فتحة بابه ليقرأها ويحفزني بملاحظاته لأنجز غيرها..

مكتبة أخي كانت زادي، خاصة وأن مصروفي لا يفي بحاجتي للكتب، قرأت أجاثا كريستي، و همنجواي، ونجيب محفوظ، وغيرهم. لم أكتشف ما أريد و ما أملك، فقد بدأت أرسم، على دفاتر المدرسة وعلى دفاتر كنت أشتريها، أقضي العصر أنقل كل ما تلتقطه عيني على صفحات الدفتر، نساء، أشجار، بيوت، يدي، أصابعي، رجلاي.. كان مدرس الرسم في المتوسط يجعلني أندفع للرسم، إذ كان يعرض رسومي على طلاب الفصل، ويبدأ بكيل المدائح، ويردد بيت شعر حفظه زملائي ” عباسُ عباسٌ إذا احتدم الوغى، والفضل فضلٌ والربيع ربيعُ”.. هذا ما جعلني أتواصل مع الرسم، وأتواصل مع الكتابة، و القراءة..

أول قصيدة!

الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة، كانت منطلقي لمرحلة جديدة، كتبت أول مادة نشرتها في جريدة، جريدة اليوم التي كانت تحتضن كتابات المبتدئين، و ” حمامة الطهر” هي أول قصيدة إذا كان من الممكن أن أطلق عليها هذا المصطلح.. بعدها وجدت أصدقاء مهووسون بالحرف، يكتبون الشعر ويقرأون، ويشكّون، اجتمعنا على الحرف ولم نفترق، كونّا تجمعاً أسميناه ” ملتقى القديح الأدبي”. اجتماعاتنا اسبوعية، نلتقي، نقرأ قصائدنا، ونناقشها، نناقش قضايا أدبية، أطلقنا مهرجاناً للشعر، جمعنا شعراء من المنطقة في أمسيتين.

الشعر، القصة، المقالة.. كانت رسلي إلى عالم الحرف، ورسلي لعلاقات جديدة.. أما المسرح فكان اكتشافي له متأخراً، المشاهدة كانت وسيلة للتعرف على هذا العالم، وكان أخي وسيطي للمسرح، كان ممثلاً مسرحياً، أخذ بيدي لأتعرف على الممثلين، ممثلون كنت أشاهدهم من بعيد أو على شاشة التلفزيون، وها أنا أعاينهم وأعرفهم عن قرب، وكانت البداية للولوج إلى عالم المسرح.

عالم المسرح!

بدأت الكتابة للمسرح حين تعرفت على سحر نصوص شكسبير، وبعدها سحر نصوص سعد الله ونوس التي لم تكن متاحة في المكتبات، ولكن كان صديق ينسخها لنا من مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، اكتشفت رحابة هذا العالم، وقدرته على أن اتشابه معه. جربت الكتابة، وكان حلمي أن أرى نصوصي مجسدة على الخشبة، ولأني كتبت نصوصاً في بداياتي لم تخضع لمعادلات الرقابة، فالمرأة حاضرة وهي الغائبة عن الخشبة في السعودية، فقد تأخر تجسدي نصوصي.

كونت فرقة مسرحية بعد أن انجرفت تجاه التدين والالتزام كمرحلة من مراحل عمري، حين جربت حتى أن اكون منشداً إسلامياُ وشاعراً حسينياً، قدمنا عروضاً مسرحية دينية واجتماعية بعد صراع مع تيار وجد أن المسرح اختراق لطبيعة المجتمع المتدين.

مسرحية (فصول من عذابات الشيخ أحمد)
مسرحية (فصول من عذابات الشيخ أحمد)

قرأت صدفة خبراً عن مسابقة في إمارة الشارقة اسمها (جائزة الشارقة للإبداع العربي-الإصدار الأول) وكان المسرح من مجالاتها. وجدت نفسي مدفوعاً للكتابة، نصاً مسرحياً مختلفاً عما كنت أكتب، اتجهت للتاريخ، تاريخ منطقة الخليج بالتحديد، فكتبت (فصول من عذابات الشيخ أحمد) التي تناولت الاستعمار البرتغالي للمنطقة، كنت مهجوساً بفكرة المقاومة وأنا التي تسكن فلسطين وجداني. وكانت اولى عتباتي لعالم المسرح المختلف، هي هذه المسرحية التي حازت على الجائزة الأولى، وهي ما فتحت لي أبوابا كانت مغلقة. بعدها بسنة تبنى مسرح الشارقة الوطني تنفيذ المسرحية بتوصية من المسرحي الراحل وأستاذي الذي تعلمت منه قبل ان ألتقيه، قاسم محمد. كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها شخوصي مجسدة على خشبة مسرح كبيرة، وبحضور جماهيري كبير على رأسهم حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، الذي تطرق للعرض وما تناوله في لقائه مع المسرحيين، كان هذا حافزاً لأن أواصل ما بدأت.

7 رأي حول “من أنا؟

اضافة لك

  1. مساء الخير استاذي العزيز
    انا من سلطنة عمان…. من بلادسيت سبق وزرتها خلال الاشهر الماضيه
    بعد اذنك اريد منك مسرحية مر القطار سريعا
    للمشاركه بها في احد المسابقات الشبابيه
    وشكرا لك

  2. استاذي يعطيك العافيه

    عندي نص سينمائي لفيلم قصير ابغا رايك فيها وشكرا..

  3. ليست مصادفة أن أجد هذا الموقع الجميل، بل كانت البداية مع ذاكرة صفراء حيث قرأت النص وأعجبني جدا ثم أشغلتني الأيام لأعود وأبحث عن كاتب النص…. مميز جدا أنت يا أستاذ عباس

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑