صرنا في الوقت الحاضر كلما تصفحنا أي تطبيق من التطبيقات الاجتماعية، نطالع مقطعا أو تغريدة أو منشورا عن الذكاء الصناعي واستخداماته، التقنية التي صارت كموجة عالية يخاف أن تجرف كل ما هو إنساني. التطور السريع الذي رافق ظهور هذه التقنية وإتاحتها للاستخدام للجميع، جعلنا أمام تحد حقيقي، وإن كان هناك من يطمئن لهذه التقنية ولاستخداماتها وينتصر لها ضد كل معارض لها. الذكاء الصناعي دخل في كل تفاصيل حياتنا بشكل مخيف ومقلق، صار قادرا على التزييف العميق، وتغيير وجوه الناس واستبدالها بوجوه في فيديوهات لآخرين، صار قادرا على تغيير الأصوات وتعديلها وتبديلها وجعلها تتحدث بكل لغات العالم، صار قادرا على صناعة فيديو من الصفر كأي فيديو مصور، وقادرا على الرسم والكتابة، يكتب شعرا وسيناريوهات ونصوصا ومقالات، بل يكتب حتى أبحاثا أكاديمية، ويصمم عروضا تقديمية، ويصمم شعارات وشخصيات، صار يفعل كل شيء، بسرعة وبدون جهد حتى.
أنا مع كل تطور يخدم البشرية، يسهل عمل الناس، يساعدهم في تنفيذ مهامهم، فأنا وغيري استفدنا من كل جديد، ففي مجال الكتابة انتقلنا من الكتابة بالقلم إلى الكتابة باللابتوب التي سهلت علينا الكتابة والتحرير والتصحيح الإملائي، فما عادت الكتابة منهكة كما السابقة، حين كنا نكتب بالقلم ثم نعيد الكتابة على الآلة الكاتبة أو نضطر لتسليم ما نكتب لأشخاص يملكون مهارة الكتابة السريعة على الآلة، هذا التطور خدمنا بشكل كبير مثل ما خدمنا كل جديد. اختراع الجوال خدمنا وسهل أعمالنا، فبه يمكن أن نرتب وننظم مهامنا اليومية، ونتواصل مع الآخرين، ونتصل بكل مكان في العالم عبر هذا الجهاز الصغير الذي بين أيدينا. ومع الذكاء الصناعي في ما يسهل من مهام وأعمال الناس، وأنا ممن استخدم الذكاء الصناعي خاصة في تصميم اللوحات والصور التي أحتاجها مثلا لتكون مرافقة لمقال أنشره في موقعي الشخصي، أو نص مسرحي، بدل البحث المضني عن صورة تتناسب والمادة التي أنشرها.
لكن هذا الذكاء الصناعي، صار يفعل كل شيء، حتى دون أن يكون هناك حاجة فعلية لما يفعله، فما علاقته مثلا بكتابة نص إبداعي، أو سيناريو فيلم، أو نص مسرحي، ما علاقته بكتابة مقال بحثي، فكل ما ذكرته هو إبداع إنساني لا يمكن أن يصنعه الذكاء الصناعي، ليس هذا هو دوره المفترض، هو يسهل ويساعد في عملية البحث عن المعلومة، يساعد المصمم، يساعد الطالب، وأشدد على كلمة يساعد، لا أن يكون هو الصانع لكل شيء. في الآونة الأخيرة، صار الذكاء الصناعي يزاحم كل إبداع إنساني، فمصمم الجرافيكس صار لا مكان له، ولا الرسام، ولا كاتب المحتوى، فالذكاء الصناعي المتاح لكل الناس، سهل على الشركات والأفراد الوصول لنتائج قد يصعب عليهم الوصول لها عبر التعاون مع متخصصين بشر، ولكن كل النتائج تبدو بلا روح، بلا مشاعر، بلا لمسة إبداعية. في يقيني أن هذه التقنية مهما بلغ تطورها لا يمكنها أن تضاهي العقل البشري في إبداعه، فالرسومات التي يصنعها هذا الذكاء، لا يمكن أن تضاهي لوحة لفنان ظل لشهور وهو يرسمها، ويملأ فضاءها من روحه ومشاعره، كما أنه لا يمكن أن يبدع كما يبدع الكاتب في قصته ولا مسرحيته، ولا يمكن أن يبدع كما يبدع المصمم.
شخصيا، أتخوف من سيطرة الذكاء على كل ما هو إنساني، من سيطرته حتى على مشاعرنا، وهو ما جعلني أكتب نصا مسرحيا بعنوان (المسوخ)، وفيه يحاول الذكاء الصناعي الذي مثلته بالمسخ أن يسلب مشاعر البشر، يسلب منهم الفرح والحزن والقلق، يسلب منهم المخاوف، والاطمئنان، بعد أن سلب منهم إبداعهم، سلب منهم وظائفهم، لكنهم في النهاية يقاومون، ويحاولون الانتصار لأن هزيمتهم ستكون هزيمة لكل البشرية. هذه التقنية التي كان انتشارها سريعا جداً، وعجلة تطورها أسرع مما نتخيل، ولأنه صار سهلا الوصول إليه، فقد لجأ إليه الطلاب لكتابة بحوثهم ومشاريعهم الدراسية بدون أدنى جهد، وهذا يشكل خطرا حقيقيا على جيل سيبدي كسلا وستضمحل عنده نزعة البحث والتقصي، وستخبو ذاكرته وذهنه عن التفكير والخروج عن الأطر والصناديق الجاهزة. أليس خطيرا أن يكون الجيل الجديد كسولا لا يفكر ولا يصغي ولا يسائل، جيل يكتب له الذكاء الصناعي ويرسم له ويصمم ويختار له طعامه وشرابه، بل يختار له أفلامه التي يشاهدها.
الذكاء الصناعي مهم كأي تقنية كانت، لكن لا بد أن تكون علاقتنا به علاقة مبدع خلاق، مع أداة، هو من يتحكم بها، لا أن تتحكم به، كأي أداة ابتكرها الإنسان لتسعفه في أداء مهامه، لا أن تسيطر عليه وتضمر بسببها حواسه وإبداعاته. فهل يمكن للذكاء الصناعي أن يتفوق على الرسامين رامبرانت وسلفادور دالي وبيكاسو، ويتفوق على الكتاب المسرحيين شكسبير وموليير وبيكيت، وأن يتفوق على الشعراء كالمتنبي والجواهري ومحمود درويش، أو يتفوق على كتاب سيناريو كفورد كوبولا وماريو بوزو وآرون سوركين، فكل ما ينجزونه ينبض بالحياة التي لا يمكن للذكاء الصناعي مهما تطور أن يصنعها فيما ينجزه لنا.
أضف تعليق