
قادتنا الدعوة لحضور أولى تجارب المسرحي البحريني الشاب حسين عبد علي الإخراجية (عندما صمت عبد الله الحكواتي) إلى متاهة الأزقة القديمة في مدينة المنامة، العاصمة البحرينية، وبالتحديد في (فريق الفاضل)، استعنّا بخريطة مرفقة مع الدعوة للوصول للبيت الشعبي الذي لا يمكن الوصول إليه سوى مشياً على الأقدام. وصلنا بعد متيه قصير وسؤال، استقبلنا بوستر بطول الباب الخشبي القديم للمسرحية.
اختار عبد علي البيت الشعبي والذي كان يسكنه بشر رغم عرض المسرحية، ليكون مكاناً لتجربته الأولى، فكان الحوش مصطبة الأداء، وتوزعت الكراسي القليلة نسبياً حول الحوش، كراس لم تتجاوز الثمانين، كعادة مسرحيات فرقة الصواري المسرحية التي لا يحضرها إلا جمهور قليل مهتم يبحث عن متعة مسرحية، إذ لا يضعون هاجس الحضور الكثيف كأولوية. المكان الذي اختاره خليل ليتحلق حوله جمهور المسرحية، كان يسعى فيه لمجاراة تجارب فرقته في اشتغالها على المكان، وليؤسس لعلاقة بين جمهوره وعرضه، وليدخل الجمهور في حكاياته التي تسردها شخوصه، من عبد الله الحكواتي (عبد الله السعداوي) إلى أصدقائه الخمسة (محمد الصفار، محمود الصفار، باسل حسين، محمد المرزوق بالإضافة لحسين عبد علي نفسه)، فلا كواليس، ولا ستارة، فالممثلون يدخلون ويخرجون من بين الجمهور بدون فواصل، في محاولة للاقتراب أكثر من مسرح الحلقة الشعبي القائم على السرد والحكي في مسرح دائري، فالمسرحية حكايا شعبية سردية في مسرح دائري وهي مواصفات مسرح الحلقة الذائع الصيت في المغرب.
لفرقة مسرح الصواري حكاية مع المكان المسرحي، فتجارب الفرقة منذ تأسست في العام 1990م تهدف للخروج من أسر العلبة الإيطالية التقليدي، والفكاك من الارتباط بالصالات المسرحية الشحيحة في البحرين وتأسيس أمكنة جديدة للعرض، في سعيهم للاشتغال التجريبي على هذا العنصر المسرحي، فمسرحية (القربان) للمخرج عبد الله السعداوي قدمت في قلعة عراد، ومسرحية خالد الرويعي (إيفا) قدمت في صالة رياضية مستفيداً من اتساعها لتأثيث المكان بسينوغرافيته المميزة، ومسرحية (الكارثة) للسعداوي قدمت في مدخل مركز البحرين للمعارض على هامش إحدى دورات معرض الكتاب، ومسرحية (حب بطعم الشوكولا) لخالد الرويعي وغيرها من المسرحيات قدمت في صالة مقر الفرقة الذي هو عبارة عن شقة صغيرة، ومسرحية (طال الأمر) للمخرج ابراهيم خلفان الذي قدمها في كواليس إحدى الصالات المسرحية، ومسرحية (اسكوريال) للسعداوي قدمت في بيت قديم، بالإضافة لمسرحية السعداوي (الصفحة الأولى من الجريدة) الذي تعددت أمكنة عرض مشاهدها بدءً من مواقف سيارات الصالة الثقافية حيث مشى جمهور المسرحية ليتابع مشاهدها على الرصيف ثم البحر المطل على الصالة مروراُ ببهو الصالة. ويبدو أن تأثير هذه التجارب على تجربة حسين عبد علي واضحة في عرضه وفي أولى تجاربه (التجريب على المكان) وهو الذي تتلمذ على يد السعداوي واشتغل معه كممثل في مسرحيات عدة، التأثير بدا واضحاً أيضاً في طريقة اشتغال السعداوي على النصوص المسرحية، فآخر تجاربه كانت كولاج لمجموعة من النصوص المسرحية والسردية والصحفية وهذا ما انطلق منه عبد علي في انجاز نص مسرحيته.
المسرحية هي حكاية تتفرع لحكايات، حكاية عبد الله الحكواتي التي تعبت جنية الكلام عنده من العمل لسنوات طويلة في تحفيزه على الحكي، فتعطيه فرصة ليقول 21 كلمة ثم يصاب بالخرس إلا إذا حصل على خمس هدايا فريدة في ثلاثة أشهر، بعدها ترافقه جنية كلام شابة تكمل معه مسيرة الحكي، اعتقد أصدقاءه أن الهدايا الخمس هي حكايات خمس، فتتوالد الحكايات على ألسنتهم وهم الذين اعتادوا الاستماع لحكاياه، رغم ما فيها من مبالغات وأساطير.

يبدأون بسرد الحكايا واحداً واحداً.. حيث مسرح فيها حسين عبد علي وهو كاتب نص المسرحية رواية رفيق شامي (حكواتي الليل) المترجمة عن الألمانية والصادرة عن دار الجمل والتي تروي قصة خرس الحكواتي سليم العجوز، بالإضافة لحكايات مأخوذة من رواية أهل البياض لمبارك ربيع، قصة الدرويش الثالث من ألف ليلة وليلة، وقصة غاسبار والمالك لميليان ودولاور ترجمة لطيفة ديب. فبدأ أصدقاءه الخمسة يسردون حكاياته علها تفك عجز لسانه، فبدأ راشد بسرد حكاية الصديقان والإمام، الصديق الذي وثق في صديقه حين طلب منه تسهيل الوصول لزوجة إمام المسجد، فيؤخره بعد كل صلاة، ليكتشف لاحقاً أن صديقه كان يخونه مع زوجته هو لأن الإمام لم يتزوج. وفي القصة الثانية يسرد سليم حكاية التفاحات الثلاث، حكاية الرجل الذي أحب زوجته المريضة لدرجة أنه واجه المخاطر لأجل تنفيذ طلبها بأكل التفاح، يأتيها بتفاحات ثلاث، ولكنه يفاجأ بشخص غريب يستعرض تفاحة يقول أن عشيقته المريضة أهدته إياها، يعود للبيت غاضباً ويكتشف اختفاء التفاحة، يقتل زوجته التي أحبها بسبب خيانتها المفترضة، لكنه يكتشف أن ابنه سرق التفاحة التي سرقها منه الرجل الغريب، يعاقب نفسه بانتزاع إحدى عينيه. ثالثة الحكايا كانت عن الملك الصادق وكذبة الرجل الغريب، ومفادها أن ملكاً عادلاً صادقاً توفي وجاء بعده ابنه الذي كان يستأنس بظلم الناس وفرض الجبايات عليهم، ووصل به الأمر لأن يعرض جائزة لمن يأتي له بكذبة لم يسمع بها طوال عمره وسيكافئ من يأتيه بالكذبة بوزنه ذهباً وإلا سيضرب عنقه، ولأنه تعلم كل الكذبات في العالم فإن كل الكذابين الذين جاءوا طمعاً بالجائزة يخرجون بلا رأس، حتى جاءه رجل غريب يملك ذكاء أغاظ الملك بكذبات استحق عليها الجائزة أربع مرات ورغم هذا لم يأخذ منها شيئاً. الحكاية الرابعة، كانت المزارع والمالك التي تحكي عن حنكة مزارع في الحصول على سمك وفير من مائدة مالك مزرعته رغم اعتقاد المالك بغباء المزارع، الحكاية الخامسة، كانت عن مريضين عجوزين في مستشفى، أحدهما قريب من النافذة يحكي كل يوم عما يراه خلالها من حياة الناس في الشارع ليسلي زميله في مرضه، وبعد وفاة المريض القريب من النافذة، يحاول المريض الآخر أن يرى بنفسه هذه الحياة خلف النافذة ولكنه يفاجأ أن النافذة لا تطل سوى على جدار وأن زميله كان أعمى. انتهت الحكايات ولكن المسرحية لم تقل لنا بأن الحكواتي تكلم أم لا.. وبقيت نهايتها مفتوحة على الاحتمالات. المحاولات المستميتة للأصدقاء الخمسة كانت لأجل أن يعود الحكواتي إلى منبر الحكايا، وهو الذي أثث مساءاتهم بأساطيره وخرافاته التي استأنسوها وفتحت لهم طاقات أمل.
المسرحية قائمة على السرد المتولد، حكاية تتبعها حكاية، والحكي الذي ينتهي، كلام في كلام، تارة يتشظى هذا الكلام وتارة يتسق، فالحكايا التي اختارها عبد علي مغرية على التمسرح، فالحكايات الخمس بالاضافة لحكاية عبد الله الحكواتي تملك ممكنات درامية، ففيها التشويق والشخصيات المثيرة والأحداث المتلاحقة، لذا وقعت المسرحية في أسر هذا السرد، ولم تتجاوزه كثيراً، ولكن ثمة اجتراحات اخراجية لتجاوز الكلام والاشتغال ضمن البعد البصري، فالمسرح الدائري أو أي شكل يقترب أكثر من الجمهور ويندمج معهم هو الأصلح لهذه المسرحية، ولو قدمت في إطار العلبة لفقدت الكثير من جمالياتها، وأوقعها في الثرثرة، ولكن المكان هو الأنسب لها، لإدخال الجمهور في اللعبة المسرحية.
إضافة للمكان، لعبت السينوغرافيا دوراً في عملية تلقي المسرحية بسرديتها، حيث استعان المخرج بقطع ديكور متنقلة ومتحولة فهي تارة صناديق يحتفظ بها الممثلون بأزياء شخوصهم، وتارة تتحول إلى كراسي مقهى، كراسي حلاق، أو عرش ملك، أو سرير مريض، تتحول وتتنقل حسب الحكايات بالضبط كتحولات الأصدقاء وتنقلاتهم وتغيير شخصياتهم، فالأصدقاء الخمسة هم أنفسهم يتناوبون على تجسيد الحكايات، ولأن المخرج لم يعتمد لا الأقنعة ولا المكياج لتغيير ملامح مممثليه حسب تغير شخصياتهم، بل أنهم مثلوا بأشكالهم الطبيعية دون تغيير ولا رتوش، لذا لم يعتمد أيضاً على تغيير ملامح ديكور مسرحيته، بل بقي الصندوق هو الصندوق في كل حالاته التي يمثلها.
واعتمد المخرج أيضاً في اشتغاله البصري في عرضه المسرحي على الإضاءة المتقشفة، لم يكن هناك فلسفة ولا تصنع في إضاءته التي أوحت بالدفء في علاقات الأصدقاء، وكانت الغاية منها المساهمة في رسم ملامح الشخصيات، وتعدد الأمكنة من المقهى إلى بيت الحكواتي إلى قصر الأمير، إلى المسجد .. إلخ.
ومع أننا في زمن يبدو المسرح فيه منحازاً للبصري أكثر من الكلمة المنطوقة، وللمسرحية التي تنسف تقليدية النص أكثر من المسرحية التي تحافظ على بنيته، إلا أن المخرج البحريني الشاب قدم مسرحيته في استعادة احتفائية بالمسرح الشعبي والاحتفالي منحازاً للكلمة كعنصر أول من عناصر مسرحيته، الكلمة بكل ما تحمله من دلالات بدءً بعنوانها، وانتهاءً بحكاياتها وحواراتها بمحمولاتها الفكرية، ورسائلها المواربة، الكلمة في مواجهة الصورة وسلطتها في الوقت الحاضر، ومع هذا لم تسقط المسرحية في فخ الثرثرة والإذاعية، بل كان لكل عناصرها يداً في تجاوز السقوط، خاصة على مستوى الأداء التمثيلي لطاقمها، فرغم بعض التباين في أداءات الممثلين، إلا أن المسرحية حافظت على الانسجام خاصة مع اجتهاد الممثلين في مباراة الأداء التمثيلي، فالسعداوي ورغم حجم دوره المختزل في بداية ونهاية المسرحية، إلا أن حضوره كان طاغياً بأدائه العفوي البسيط والبعيد عن التكلف، إضافة لكاريزما شخصيته كمسرحي خليجي له رمزيته، ومحمد الصفار بما يملكه من أدوات أدائية مسرحية عالية تجلت في قدرته على التكيف مع الشخصيات المسرحية المختلفة التي أداها، وقدرته على التبدل والتجدد مع كل حكاية وشخصية من شخصيات المسرحية، ويأتي بعدهما بقية الطاقم في مستويات أدائية متقاربة. كان الأداء الجماعي ورغم بعض التباين ينم عن قدرة إخراجية واعية لشاب مثقف، انبنت علاقته بالمسرح أولاً كممثل، فكانت تجربته الإخراجية الأولى متجاوزة لاخفاقات البدايات، فتجلت إمكاناته في ضبط طاقمه وضبط أدائهم، فاهتماماته الثقافية والفنية المتعددة، فهو الفوتوغرافي والمصمم والتشكيلي والناقد والقارئ النهم، كل هذه الاهتمامات أفرزت هذه المسرحية.
المسرحية كان لها حضور بعد عرضها على مدى ثمانية أيام في البحرين، في مهرجان المسرح العربي الذي أقيم في الشارقة يناير 2014 بعد اختيارها من قبل اللجنة المنظمة من ضمن عدد كبير من المسرحيات المتقدمة للمشاركة، كما مثلت البحرين في مهرجان المسرح الخليجي للفرق الأهلية الذي أنتظم في الشارقة في مايو 2014، وقد أثارت جدلاً وتبايناً في الآراء بين معارض لهذه التجربة ومؤيد لها، بين من وجد فيها تجربة قيمة وبين من وجدها تجربة هزيلة لم تقدم إضافة، هذا التباين مرده إلى التباين في انحياز نقاد المسرح والمسرحيين للمسرح، للمسرح الذي يحتفي بالبصري ولمسرح الكلمة، بين مسرح حديث وبين مسرح شعبي يحاول الاقتراب أكثر من الجمهور. فهناك من يرى المسرحية تراجعا للمسرح في انتمائها للمسرح السردي والمسرح الشعبي الذي خفتت الدعاوى له، خاصة ونحن نساير التجارب الحديثة للمسرح العالمي الذي قدمت مقترحات بصرية جديدة أزاحت الكلمة ومنحت الصورة الأهمية الأكبر في المسرح. وهناك من يرى في المسرحية امتداداً لتجارب المسرح الشعبي الذي يراد له أن يحيا ويستمر ويجول كل الدول العربية ويستقر فيها، وهذه المسرحية تعيد إحياء هذا المسرح على مستوى المسرح البحريني والخليجي.
رغم ما أثير حول المسرحية من كلام ومن تساؤلات ونقد، تبقى تجربة تستحق الاهتمام، وتشكل إضافة لفرقة مسرح الصواري الذي قدم ويقدم تجارب مغايرة عن السائد ضمن مبدأ التجريب، ويؤكد على نضج تجربة هذه الفرقة وأعضاءها الذين لا زالوا شغوفين بتقديم النوعي من المسرح، ولم ينجروا خلف إغراء النجومية الذي يمكن أن يحققها المسرح الاجتماعي الكوميدي.
اترك تعليقًا