منذ تأسسه عام 1991م، ومسرح الصواري البحريني يعمل مختبرياً على رفد الحركة المسرحية في البحرين والخليج بتجارب تتجرد من الأعراف المسرحية السائدة، وتدخل في نطاق التجريب والتجديد، فالصواريون يسعون وفق طموحاتهم وهوسهم بالمسرح إلى دفع مسرحهم نحو اكتمال النضج المعرفي والفكري لخلق ذائقة مثقفة لدى الجمهور، عبر عروضهم المتميزة والتي شاركت في مهرجانات عربية وعالمية وحظيت بالاهتمام، وأثمرت عن جائزة الإخراج للمخرج عبد الله السعداوي عن مسرحية الكمامة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1994م، ضمن انشغاله بالقراءات المنتجة لرؤية خلاقة للنصوص المسرحية. وأركز هنا على حالة من حالت التجريب في عروض الفرقة المسرحية وهي اشتغالهم على تجاوز العلبة الإيطالية كمكان للعرض، الذي خلقته إضافة لنزوعهم لمبدأ المختبر المسرحي، الظروف التي لم توفر لهم قاعة عرض مسرحية ينثرون عليها ثمار تمسرحهم.
المكان المسرحي (تعريف):
المكان المسرحي وحسب تعريف المعجم المسرحي لماري إلياس وحنان قصاب حسن “هو الموضع الذي تقدم فيه العروض المسرحية، سواء كان بناءً شيّد خصيصاً لهذا الغرض كصالات المسرح، أو مدرجات الهواء الطلق، أو أي حيز مكاني يستخدم في ظرف ما لعرض مسرحي (الشارع، المرآب، الحديقة .. إلخ) وفي كل الحالات ومهما اختلف وضع المكان وشكله عبر تاريخ المسرح ومن حضارة إلى لأخرى، ومهما كانت نوعية العرض، فإن المكان الذي يجري فيه العرض يشتمل بالضرورة على حيزين مستقلين عضوياً هما حيز اللعب الذي يتم فيه الأداء، وحيز الفرجة وهو مكان المتفرجين”، وينقل الدكتور أكرم يوسف في كتابه الفضاء المسرحي دراسة سيميائية عن قاموس المسرح الفرنسي لبلتريس بافيس تعريفاً للمكان بأنه “المكان الذي يدور فيه العرض، سواء كان ذلك في مسرح مكشوف بالهواء الطلق، أو في مدرسة أو خان.. إلخ”.
تطور تاريخي للمكان المسرحي:
تطور المكان المسرحي منذ بدايات المسرح في اليونان القديمة، حتى وقتنا الحاضر، وتغيرت معماريته وتبدلت وفق المتغيرات التاريخية، والظروف الإجتماعية والثقافية، التي أثرت في معمار البناء وبالتالي معمار المسرح، وخلفت تبايناً في أشكال معمار المسرح. فقد بدأ مكان العرض المسرحي عند الإغريق منذ بدأت الإرهاصات الأولى لفن المسرحية من خلال الطقوس الدينية التي تقدم فيها القرابين إلى الإله دينيسيوس،- وحسب كتاب المكان المسرحي لشكري عبد الوهاب- بمكان للمذبح على منخفض وتواجهه كراسي خشبية للمتفرجين على جبل الأكروبوليس، ومن هذا الشكل البسيط تطور شكل المسرح حسب ما طرأ على مجتمع الإغريق آنذاك من تغيرات على شتى الصعد، فمع وجود الممثل الأول ثيسبس عرف المسرح الأغريقي فكرة الحوار الذي كان يتلى بين الجوقة وهذا الممثل، بعدها أدخل أسخيلوس الممثل الثاني، وتبعه سفوكلس وزاد عدد الممثلين إلى ثلاثة، وتماشياً مع هذا التجديد، احتاج الأغريق إلى تطوير معمار المسرح ليلائم الشكل الجديد للمسرحية، واحتياجاتها، وصولاً إلى المسرح الروماني الذي تغير بعد انتفاء صفات الدين عليه، وبالتالي تغيرت ملامح مكان العرض ليبتعد عن المعبد، ويبنى داخل المدينة مستفيداً من الطراز المعماري الروماني المعروف بأعمدته و مدرجاته الحجرية. لاحقاً عاد المسرح إلى صبغته الدينية بعد تبني الكنيسة له في العصور الوسطى، واتخذ المذبح مكاناً لتقديم المسرحية. وبعد أن ضاقت الكنيسة بالجمهور، انتقلت المسرحية إلى خارجها، في ساحتها للإستفادة من زخارف الواجهة وابوابها كخلفية للعرض.
وهكذا مع كل ظرف وزمان، يتغير شكل المسرح، فمن المسرح الدائم الذي ابتكره الإيطاليون في القرن الثالث عشر، بعد رفع الكنيسة يدها عن العروض المسرحية، وإشراف البلديات والنقابات عليها، إلى المسرح المتجول الذي تحولت فيها منصة العرض إلى عربات، مروراً بالابتكار الفرنسي، وهو مسرح الحلبة، المقارب لشكل السيرك المعروف، ثم مسرح القصر ذو الستارة.
ومع كل التغيرات التي نوعت شكل معمار المكان المسرحي، فإن الشكل الحالي للمسرح والذي يطلق عليه ( العلبة الإيطالية) هو الذي تسيد منصات التمثيل المسرحي منذ ظهوره في القرن السابع عشر في إيطاليا وحتى الآن، وأصبح المعمار الإيطالي في بناء المسارح هو الدارج، وبات تقليداً متعارفاً، ولا يخلو بلد من هذا النوع من المسارح، ولا تقام العروض إلا فيها، خاصة الجماهيرية منها.
العلبة الإيطالية في المسرح العربي:
عرف العرب المسرح بشكله التقليدي الدارج الآن، عن طريق مارون نقاش التاجر اللبناني الذي زار إيطاليا في العام 1848م، واستورد المسرح من هناك، وقدم عروضه المنسوخة من العروض الإيطالية، ومذاك والمسرح العربي لم يبرح هذا الشكل الذي أضحى إرثاً و نموذجاً، رغم وجود أشكال فرجوية في الوطن العربي او العالم الإسلامي على الأعم، يمكن اعتبارها أشكالاً مسرحية، لا تعتمد المعمارية الإيطالية في تقديم عروضها، كالحكواتي، وخيال الظل، والأراجوز، وطقوس التعزية.
وقد حاول مسرحيون عرب في سبيلهم لتأصيل المسرح العربي، الإستفادة من هذه الأشكال الفرجوية، في خلق مسرح عربي خالص، مستفيدين من الخزين الفلكلوري والطقوس التي يملكها العربي، كالمسرح الاحتفالي، عند الطيب الصديقي، وعبد الكريم برشيد في المغرب العربي، ومسرح الحكواتي في عروض روجيه عساف، وتجربة الفرافير عند يوسف إدريس في مصر. هذه المحاولات لتأصيل المسرح العربي، تسعى بشكل أو بآخر لتجاوز أعراف العلبة الإيطالية، فعروضهم لا تقدم بالضرورة على خشبة مسرح تقليدية، بل أنهم فتحوا المكان المسرحي على احتمالات اكثر، وجددوا من طاقاته، بعد أن استنفذت في العلبة الإيطالية.
ولا يختلف الوضع في الدول العربية عن دول الخليج، التي دخلت العلبة ولم تخرج منها، منذ تعرفت على المسرح، كشكل جديد من أشكال التعبير، والمتعة، دون أن يدخل مختبرات البحث والتجديد، ويكسر نمطية هذه التقاليد الراسخة، فظل المسرح كما هو، يقدم في هذا النموذج، وكأنه الأمثل والأقدس الذي لا يطاله الشك، رغم التطورات التي طرأت على أكثر عناصر العرض المسرحي، من نص، إلى تمثيل، إلى إخراج.. ويبدو أن الصورة المكرسة عن المسرح، كونه يروج للمتعة والترفيه، مما صار مطلباً جماهيرياً، بعدما تربت ذائقة الناس على السطحي من الأطروحات المسرحية، هي ما يسهم في بقاء المسرح-معمارياً- على هذه الشاكلة، إضافة إلى أنه الأوفر وجوداً، لملائمته لااستخدامات متعددة، كقاعة للمحاضرات أو الاحتفاليات، ولا يخلو بلد من صالة عرض مسرحية-كما أسلفت-.
فرقة الصواري المسرحية البحرينية:
حين تأسس المسرح في العام 1991م، كانت تهدف وحسب بعض ما جاء في اللائحة الأساسية إلى:
- تطوير الحركة المسرحية في البحرين بحيث تواكب التجارب المتقدمة في مجال المسرح.
- تقديم التجارب الشبابية الجديدة في مجال المسرح وتشجيعها على تقبل الأفكار المسرحية المتقدمة.
- الاهتمام بخلق ذوق مسرحي جديد يبتعد عن المطالب الاستهلاكية الســطــحية وينفذ إلى إشباع الجوانب الثقافية والروحية لدى الجمهور.
بدأت الفرقة بمجموعة من المسرحيين الشغوفين بمسرح مختلف، بمسرح يعبر عن ذواتهم التي تجانب العادي والمستهلك، ذوات محملة بالأسئلة تبحث عن الفرادة في مسرح يتجاوز حدود المحلية، وينتزع الإعتراف بإبداعاتهم، حتى وإن حلقوا بهذه الذوات بعيداً عن أعراف المسرح السائد، والتي ستفقدهم شريحة من الجمهور الذي سيغادرهم، وهم يؤسسون لنمط من مسرح لم يعهده، وهو ما جعل من عروضهم المسرحية عروض نخبة، من جمهور انتخبته الفرقة من المهتمين والباحثين عن قيم جمالية غير مألوفة، وانتخبها ليؤسس علاقة مع عروضها ويتواطأ معها.
ولأن ممارسة أعضاء الفرقة للمسرح هي ممارسة تنطلق من مختبرات التجريب والبحث، فإن مجمل العناصر المسرحية عندهم طاولها التجديد، من النص، الذي بات يكتسب زوايا قراءة جديدة، وسقطت عندها قداسته، وتحول إلى مجرد فكرة خام ينحت منها مخرجو الفرقة صياغات نصية جديدة، إلى التمثيل، والسينوغرافيا التي أبدعوا في تصميمها مستفيدين مما أفرزته التقنيات الحديثة من إضاءة ومؤثرات صوتية و وسائط متعددة، إضافة إلى مكان العرض المسرحي، وهو ما عنوان هذه السطور.
المكان المسرحي عند فرقة الصواري:
لا تملك الفرقة صالة للعرض المسرحي، كغيرها من الفرق المسرحية في مملكة البحرين، بمعنى صالة مؤثثة بأمكانات عرض مسرحية جاهزة، إذ لا يوجد في البحرين سوى بعض القاعات التي تهيؤها الفنادق لاستضافة عروض جماهيرية تجارية في مناسبات الأعياد، فقط بين يدي الفرقة عدد من القاعات متعددة الإستخدام في بعض المدارس، وذلك قبل افتتاح الصالة الثقافية، لكن هذه القاعات والصالة، لا تفي بسعي الفرقة للتجريب حتى في مكان العرض، ولا تقنع ثورتهم ضد التقاليد المسرحية الجامدة، إذ ” أن ثورة المسرح تبدأ بثورة الخشبة أي الفضاء المعماري أو السينوغرافي، وتحقيق هذه الثورة كان يجب أن يتم عبر محاولة تدمير ما يسمى المعمارية الإيطالية والتي بدأت وكأنها قمة المعمارية المسرحية ونظن أن مختلف تعابير الثورة الحديثة للمسرح كانت تتمركز في هذا الإطار: كيف نحول الخشبة الجامدة إلى خشبة متحركة وهذا معناه مواجهة المعمارية الإيطالية اللاعقلانية”، وفق ما يراه بول شاوول، فالصالة والمسرح المعروف عبارة عن علبة إيطالية، وهي امتداد للطراز الإيطالي في صالات العرض، ولو بتقنيات حديثة، وهذه العلبة هي من ضمن الكلاسيكيات التي أضحت من التراث المسرحي، التي ثارت عليه الفرقة، إذ لا تتسق المحدودية التي توفرها العلبة مع اشتغالات أعضاء الفرقة، التي أنتجت أمكنة عرض مختلفة، مأخوذين بفكرة بيتر بروك في المساحة الفارغة ” أستطيع أن أتخذ أية مساحة فارغة وأدعوها خشبة مسرح عارية.فإذا سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يرقبه إنسان آخر، فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح”.
مسرحيات الصواري والخروج على تقاليد الصالة:
من المسرحيات التي قدمتها الفرقة في مشروعهم الحداثي، وركزوا على مفردة المكان و خرجوا بمقترحات مكانية جديدة:
مسرحية القربان
مسرحية معدة عن نص الحلاج لصلاح عبد الصبور، وأخرجها عبد الله السعداوي، وكانت قلعة عراد الأثرية، وقصر الغوري التراثي بالقاهرة إبان مشاركة العرض في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، مكانين لعرض المسرحية، التي تبحر في مأساة المتصوف الحلاج، وتعرضها بقسوتها، وقسوة ما آل إليه مصيره.
اشتغل السعداوي على المكان الذي كان مفتوحاً، واثث فضاء العرض، بما يتلائم ومساحة الأداء، مما يتيح له صياغة سينوغرافيا ترتبط وهذا المكان، ليخلق حالة من الدهشة عند المتلقي، ويشيع جواً من الطقسية التي تقصدها، فالسماء بتفاصيلها كانت حاضرة، وقسوة حجارة القلعة حاضرة، لتحيل هذا المتلقي إلى دلالات المعاناة التي عاشها الحلاج، وتفتح احتمالات التأويل، كما أن إتساع دائرة الروئية، وتعدد زوايا التلقي، أعطى أبعاداً جمالية للعرض، ما كان لها أن تتحقق لو قدم العرض في صالة مسرح عادية، لن تمتلك إمكانيات الفضاء المفتوح الذي اختاره السعداوي لعرضه.
إيفا
يحيل خالد الرويعي في مسرحيته ( إيفا) تأليف السوري وليد فاضل صالة رياضية إلى مكان مسرحي، صالة رياضية قد لا تملك الإمكانات التي تجعل منها مكاناً للأداء، لكن رؤية الرويعي البصرية لنص فاضل، وضعت الصالة تحت طاولة التجربة، ولأن حسه كسينوغرافي دائماً ما يقوده لتجاوز المألوف، ورفد مسرحياته بمشهدية بصرية مستعيناً بإنجازات التكنولوجيا الحديثة، لأجل هذا فقد اختار صالة الرياضة لتكون المكان الذي يبث منه الروح في النص.
وقد تعددت في عرض (إيفا) المستويات المكانية، فيبدأ العرض بالدخول إلى فضاء العرض عبر مواجهة مع الجثث والدم وغرف التعذيب والجلادين، ثم المستوى المكاني الذي تجري فيه غالبية الأحداث، المستوى الأفقي، ففيه مكتب دائرة الأمن القومي، والسجن، وفي نفس المستوى تجري الأحداث داخل منزل إيفا، وهناك مستوى أعلى، منه يرمى المسجونون إلى احواض أسماك القرش. مع هذا التنوع في المستويات المكانية، يبدو المتلقي محصوراً تماماً في حدود هذا الفضاء، وكأنه جزء من الحدث، إن لم يكن فاعلاً فيه، فالجمهور أختير له البقاء ضمن هذه الحدود ليعيش لحظة القسوة والمعاناة التي تعيشها إيفا، ويعيشها حشد من المعتقلين السياسيين الذين سيؤلون طعاماً للأسماك المتوحشة، هنا يعيش المتفرجون اللحظة الراهنة، بكل تجلياتها.
وبطبيعة الحال لن تمكن قاعة العرض المسرحية العادية أو العلبة الإيطالية، الرويعي مخرج إيفا، من شد المتلقي إلى العرض، مع زاوية التلقي المحدودة، خاصة وأن الحوار المنطوق ليس هو العنصر الأساس في هذا العرض المتفرد، بل أن السينوغرافيا بما تحويه من تفاصيل هي الكفيلة بإعطائه قيمه الجمالية.
الكارثة
عن مجموعة من النصوص المسرحية مثل الكارثة لصمويل بيكت ورواية آل ماركس لخوان غويتسولو، ودراسة نفسية للدكتور مصطفى حجازي، يبني عبد الله السعداوي نص مسرحيته (الكارثة) التي عرضت في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، وعرضت أيضاً في مدخل مركز المعارض ضمن فعاليات معرض الكتاب في إحدى دوراته.
المسرحية التي غيبت التقاليد المسرحية المألوفة، فالنص لا يحمل بناءً درامياً، ولا تصاعداً في الأحداث ولا صراعاً ظاهراً، وغيره من تقنيات النص المسرحي، فالمسرحية حكاية بشر هذا العالم، وحياتهم الرتيبة، فشخوصها يقومون بأداء أفعال تتكرر طوال مدة العرض، فهناك أحدهم يتألم، ثم يتشنج فيسقط على الأرض، وهناك ثانٍ يتزين وينام، فيستيقظ ويتزين وينام، وثالث يظل نائماً، ويستيقظ على هذايانات، ورابع مسافر، يتحرك بطيئاً رتيباً لكنه لا يصل إلى مبتغاه.. وعلى مستوى آخر ودون أن تتداخل هذه الشخوص، على طرف من أطراف مساحة الأداء، يوجد جلاد يصدر أوامر لشرطي ليتحكم في أفعال إنسان، أوامر تصدر وينفذها الشرطي، في هذا الجسد الذي يملك قدرة السيطرة على ذاته..
لم يختر السعداوي أن يقدم عرضه ضمن إطار العلبة الإيطالية، واختار له هذا المكان وفق اشتغالاته على تشكيل رؤية تترجم نصه، وتشكل دلالات، ولأن الإنسان هو العنوان الرئيس لهذا العرض، فلابد أن يشكل المكان عبوراً سلساً لتلقي الجمهور، فمدخل المعرض كمكان لعرض الكارثة كان موفقاً في شد انتباه المارة وزواره إلى أن ثمة مسرحاً مختلفاً عما ألفوه، وفي مكان يختلف عما ألفوه، فـالمتفرج الجديد كما عبر عنه شاوول ” يساهم في صنع المسرح الجديد، من تعميق الصورة المسرحية ووضعه في داخل القوة الإيحائية للفضاء المسرحي، وتحريك الإمكانيات التعبيرية لهذا الفضاء، لهذه المعمارية، لهذه السينوغرافيا بل إن الفضاء المسرحي نفسه لم يعد على امتداد التجارب، فضاءً ثابتاً، صارت الصالة في كل مكان وصار الجمهور من ضمنها” ويعني ذوبان مكان العرض.
مسرحية ( حب بطعم الشوكولا)
إخراج خالد الرويعي الذي شارك في التأليف، وتمثيل حسين العريبي ،نجيب جلال، ولمياء الشويخ ، وسينوغرافيا محمود الصفار والرويعي نفسه، وقد عرضت في مقر المسرح في بناية تتالف من ثلاث طبقات ويشغلون فيه الطابق الأخير.
هي أقرب إلى حجرة الجلوس، ساحة لحوارات ونقاشات الصواريين حول المسرح والحياة، وهاهي تحال بين معاول التجربة إلى فضاء مسرحي، ورغم ضيقها النسبي، تعاد صياغتها لتسع اشتغالات الرويعي وجنوحه عن كلاسيكية العلبة الايطالية. يعيد هندسة الحجرة وتفاصيلها، المخزن، التواليت في عرض يبحث عن الغربة” غربة الأشياء وخصوصاً غربة الواقع المركب والمتهالك، وغربة هذا الإنسان العالق بين المعنى الكلي لمفهوم الكون ومفهوم العالم”، حكاية زوجين متحابين وغربة علاقتهما، وفقدان إحساسهما بحميميتها. ينزع الرويعي في هذا العرض إلى الإتكاء على السينوغرافيا بوصفها دلالات تبث شفراته، فالسمعي البصري في بعديهما الدلالي والجمالي جنباً إلى جنب مع الحوارات المنطوقة تؤسسان للحظات التلقي. فالحجرة-فضاء العرض- تندغم وتفاصيلها في قتامة الأسود الذي يغطي الجدران والسقوف وحتى الأرض، والظلام الدامس، وكنا كمتلقين نتلمس طريقنا لكراسي المتفرجين الثلاثين المصفوفة عبر كشاف صغير جداً لا يوضح المعالم، إمعاناً في غربة المكان، وبرودة العلاقات الإنسانية لشخوص العرض. يبدأ العرض بالراوي الذي أزاح فيه الرويعي الجسد البشري واستبدله بجهاز الكمبيوتر، إذ نقرأ الحدث عبر شاشته السوداء المكبرة لا أن نسمعه على لسان ممثل، إزاحة لنمطية الراوي على المسرح.
كان لاستخدام الرويعي الواعي لمفردات بصرية وسمعية كالفيديو لعرض بعض المشاهد لشغل ثغرات الحوار، كمشهد الزواج، والصور المتحركة للممثلين الرئيسين في أوضاع مختلفة، ولعبة الإضاءة المكملة لجمالية العرض، وسمعية من خلال موسيقى نادر أمير الدين وأدائه وأداء نور الزياني الغنائي، أن يعطي للعرض وللمكان المعاد صياغته بعده الجمالي، مفردات حفزت حاسة التلقي واختصرتها في هذه المساحة بكل تفاصيلها، وبزوايا الرؤية التي اتسعت شيئاً،وضاقت في آن، وبذرت في الذاكرة أسئلة تلتقي مع مقولة العرض ” هل العالم فعلاً أصبح قرية صغيرة أم نحن الذين تضخمنا بما يكفي لأن نرى العالم كله صغيراً لا يسعنا؟”.
وبنفس مستوى الإشتغال، أحال السعداوي مقر الفرقة الصغير، إلى مسرح في عرضين سرديين، هما “ابني متعصب” للقاص حنيف قريشي و” بورتريه جلاد” للقاصة غالية قباني، واختار زوايا قدم فيها العرضين ضمن إطار العلبة، إلا أن عرضه لم يتحكم فيه المكان بقدر ما تحكمت طبيعة النصين في تأسيس هذا المكان، وهذا يختلف عن المسارح الجاهزة التي تخضع العروض لظرفها المعماري، فقد بنى السعداوي علبته داخل الغرفة وأفرغها من عاديتها، ليركز نصه البصري ضمن حدود الإطار المختصر.
طال الأمر
عرض آخر للصواري، يروي ويلات الحروب وما تفرزه من انتكاسات نفسية للبشر، حد فقدان الرغبة في الحياة، في قصة زوجين عجوزين يسكنان في الطابق السادس في إحدى البنايات التي تطل على ساحة تمتلئ بالجثث جراء الحرب. حكاية مجردة من الزمان والمكان، فهي حكاية الإنسان تحت طائلة الحرب، أي حرب.
إعلان العرض يشي بأن الصواريين يعودون إلى اشتغالات العلبة الإيطالية ( مسرح مدرسة الشيخ عبد العزيز)، لكن حال الدخول إلى الصالة لا يلحظ سوى سقالات وأغطية زرقاء كبيرة، ولا كراسٍٍ لمتفرجين، وقبل بداية العرض بدقائق يرشدنا مخرجه إلى باب يفضى إلى كواليس المسرح التي أحالها خلفان إلى مكانٍ مسرحي قالباً معادلة التلقي المألوفة، حيث تدخل مساحة الأداء إلى عمق الخشبة لكن من الخلف، وتتحول الكواليس إلى مساحة تتوزع فيها كراسي المتفرجين التي لا تتجاوز الثلاثين، والفضاء المغلق الغامض غموض الآتي، المصاغ من أخشاب قديمة يبدو عليها الإهتراء، دلالة إهتراء الروح الإنسانية تحت وطأة الظروف، أغراض تجمعها الفوضى، دلالة فوضى الحرب، إضاءة لشموع تتوزع في زوايا المكان. وعبر الشفرات البصرية والسمعية – عزف كونترباص حزين- التي يرسلها العرض، وعبر أداء الممثلين، يدخل المتلقى في سيرورة الحدث متعاطفاً مع هاتين الروحين الممزقتين.
مسرحية الزيارة الخيرة
مرة أخرى تكسر فرقة الصواري البحرينية نمطية المكان المسرحي، ويخرج إبراهيم خلفان بعرضه ( الزيارة الأخيرة) من العلبة الإيطالية، فالعرض يقدم على خشبة دائرية متحركة يتحلق حولها الجمهور، في محاولة لإدخاله شعورياً مع انفعالات الشخوص وربطه مع الحدث.
العرض يدور حول مريض نفسي مكسور ويعاني فوضى في تركيبته الداخلية، يواجه صراعاً بين أحلامه وهواجسه التي تطور فيه حالة العنف وتكرس نزعة القتل كوسيلة خلاص، وبين العودة إلى فطرته كإنسان عفوي يعيش ويتعايش مع الظروف بأمان. حكايته هي حكاية الناس الذين تختلط عندهم النوازع بين إنسانيتهم الفطرية وبين الظروف الخارجية التي تصوغ وتوجه كلاً إلى طريقه.
الخروج على تقاليد العلبة الإيطالية في هذا العرض وسع دائرة الرؤية، وألغى الفصل بين مساحة الأداء والجمهور، وبالتالي فقد انتفت قوانين الإخراج المسرحي التقليدية، من توزيع الممثلين على الخشبة، وهندسة الميزانسين، وهذا ما حققه المكان المسرحي الجديد في عرض الزيارة الأخيرة، رغم أن العمل لن تتغير قيمه الجمالية لو قدم في خشبة مسرح تقليدية.
مسرحيات أخرى
وفي ذات السياق، قدمت فرقة الصواري عروضاً مسرحية وتجارب لم ينساقوا فيها إلى منهج أو شكل أو توجه، ولم ينساقوا إلى أعراف مسرحية مكرسة، وصارت فيها مساحة الأداء والتلقي مادة للبحث والتجريب، كما أن النصَ مادةٌ جربوا عليها ضمن ورشهم واشتغالاتهم.
يذكر من هذه العروض، مسرحية ميلاد شمعة من تأليف وإخراج يوسف الحمدان التي عرضت في رواق قديم، مستغلة هيئة الرواق و شكل بنائه في إبداع الرؤية البصرية. ومسرحية الكمامة التي حاز عنها عبد الله السعداوي جائزة الإخراج من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وعرضت في مقر الفرقة، ومن معماره تم توليد الدلالات الحميمية داخل بيت الطاغية، الشخصية الرئيسة في العرض، وتحطيم الجدران بين العرض والجمهور من خلال إدخاله ضمن دائرة الأداء.
إضافة إلى عرض سكوريال للمخرج عبد الله السعداوي، وعن نص الأسباني ميشيل دي جيلدرود، الذي قدم في بيت قديم يحاكي قصر سكوريال، حيث تدور فيه أحداث الحكاية، وقد أمكن هذا التجاوز للعلبة الإيطالية مخرج العرض من الاستفادة من تقنيات الأداء في المسرح الشرقي، والطقوس الدينية. ومونودراما الجاثوم الذي أخرجها السعداوي وكتب نصها يوسف الحمدان، الذي عاد إلى ما يشبه مسرح الحلبة الفرنسي المقارب للسيرك، لكنه لا يشبه المسارح الدائرية في الطرز المعمارية القديمة، بل هو نتاج الإشتغال على المكان، وعلى توليد صياغات جديدة لهذا المكان، لتأمين أقصى حالات الشد بين المتلقي الذي يتلقى العرض بشكل أفقي ومن زوايا مختلفة وبين أداء الممثل داخل العرض.
اشتغالات أعضاء فرقة الصواري على عنصر المكان المسرحي، لم يأت طارئاً، أو مفصولاً عن نسق النص والشخوص والأحداث التي يحفل بها النص، فالعرض المسرحي ” يتميز بملموسية المكان من خلال عدد من العناصر المحددة منها: الخط، الحجم، اللون، الشكل، الملموس، الفضاء، القاعدة، الرائحة، فإن متلقي العرض المسرحي يكون مؤطراً بهذه العناصر، ويتوقف نوعية الإحساس بالمكان على رؤية المخرج، والكيفية التي يرتئيها في تجسيد العرض ومكانه، والرسالة الضمنية التي يريد توجيهها إلى المتلقي، سواء كان في توازي، أو تداخل أو انتشار الزمان والمكان، ويحققها ضمن تقنيات العرض ليصل إلى فلسفة الموقف الجمالي للعرض إجمالاً”.
كما أن المكان المسرحي ” ينتج عن علاقات متداخلة تشكل محوراً واضحاً يمكن تلمس أبعاده التاريخية والاجتماعية والنفسية، ومحوراً عميقاً يسهم بنمو وتطور الأحداث واكتشاف درجة إدراك الشخوص وعمق منظورهم للمكان وكيفية الإحساس به والتفاعل معه والأفكار المتوالدة ضمنه أو التي يثيرها، سواء تجاورت أو تقاطعت أم توازت أم تداخلت”، والمكان عند الصواري ينتج عن هذه العلاقات المتداخلة، التي تشكل المحور الثابت، ويكون خاضعاً لرؤية المخرج، والمقولة العامة للمسرحية.
ويتميز المكان عند الفرقة بالتنوع والتباين، وهذا يكشف عن ” رؤية مكانية، تتخذ من العناصر المكانية وسيلة ناجحة لإضفاء اللغة البصرية وتشكيل عمق تشكيلي من خلال المكان ذاته، في إعطاء دلالات متنوعة لعناصر المكان، سواء كانت تاريخية، أم اجتماعية أم جمالية”.
كما تتميز كل ” العناصر المكانية بالقصدية والاقتصاد والوضوح، فالدلالات التي يبثها مكان العرض سواء الخشبة أو تجاوزه فإن المكان يصبح جزءاً من رسالة العرض ويتحول من وظيفته الحيايتية إلى وظيفة جديدة جمالية أو فكرية أو عاطفية”، وهذا ما يمكن استشفافه من العروض التي قدمت في أماكن قلبت معادلتها لتتغير وظيفتها من مدخل معرض كتاب، ومقر للفرقة، أو رواق قديم، أو حتى قلعة أثرية، إلى مكان عرض يملك دلالاته المسرحية، وفضاءً يستوعب تأويلات المخرج لنص مسرحي.
والإيجابي في محاولات الصواري كسر إطار العلبة، عطفاً على تكريس مفهوم الورشة والمختبر المسرحي، هو العلاقة التي ” ستقوم بين الممثل والعالم، ولا يمكن أن تقوم أبداً في أي شروط أخرى، وهذا يعطي للمسرح أنفاساً جديدة” على حد تعبير بيتر بروك.
* ورقة قدمت في الندوة التي أقامتها فرقة الصواري بالبحرين حول تجربتها بمناسبة يوم المسرح العالمي 2006.
إحالات:
- المكان المسرحي-شكري عبد الوهاب-2002-دار فلور للنشر والتوزيع.
- مقال الدلالة المسرحية في سياق الكارثة- اثير السادة-حصاد 2002-الأيام.
- النقطة المتحولة:أربعون عاماً في استكشاف المسرح-بيتر بروك، ت:فاروق عبد القادر-عالم المعرفة، ع 154.
- الفضاء المسرحي، دراسة سيميائية-د.أكرم اليوسف-دار مشرق-مغرب 1994.
- المكان في النص المسرحي- د.منصور الدليمي-دار الكندي1999م.
اترك تعليقًا