لا زالت حاضرة في ذاكرتي حصص اللغة الإنجليزية في السنة الأولى المتوسطة، فقد بقيت عالقة لأسلوب المدرس الفريد آنذاك في توصيل المعلومة لطلاب للتو بدأوا رحلة تعلم لغة جديدة، فالمدرس اعتمد فكرة الدراما بشكلها البسيط لترسيخ معلومة أو كلمة جديدة، فبأسلوبه الطريف والمرح رسخت المفردات والقواعد التي علمنا إياه. بعد سنوات أدركت أن ما كان يفعله في الصف ليس سوى شكل مبسط من مسرحة المناهج، الذي صار يدعوا له تربويون لتغيير نمط التدريس المعتمد على التلقين.
ويعرف الدكتور كمال الدين حسين في كتابه (المسرح التعليمي المصطلح والتطبيق) مسرحة المناهج بأنها “إعادة تقديم الموضوع التعليمي بشكل غير مباشر من خلال وضعه في خبرة حياتية، وصياغته في قالب درامي، لتقديمه إلى مجموعة من التلاميذ، داخل المؤسسات التعليمية، في إطار من عناصر الفن المسرحي، بهدف تحقيق مزيد من الفهم والتفسير” (1)، وبشكل أكثر تبسيطاً، فإن مسرحة المناهج تسعى لمحاولة وضع المناهج الدراسية في قالب درامي لتسهيل عملية إيصال المعلومة للطلاب بدل الشكل التقليدي في التعليم المعتمد على التلقين. ويعتبر هذا المنهج التعليمي امتداداً لأسلوب التربوي والفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) التي تتلخص في تعليم الطالب دروسه الأكاديمية عن طريق الخبرات والممارسات الحياتية اليومية. وتعد المسرحية والتربوية البريطانية دوروثي هيثكوت (1929-2011) رائدة في مجال (الدراما عبر المنهاج)، وقد دخلت لعالم التربية من باب المسرح كونها كانت ممثلة، ومزجت خبراتها المسرحية والتربوية لتطوير هذا الاسلوب، وعلى الرغم “من أنها أحبت التمثيل، فإن رؤياها كانت أبعد من الخشبة، وباتجاه استخدام المسرح كبنية تعليمية. بشكل فطري، أدركت النزعة الإنسانية الطبيعية لاستخدام الدراما في استكشاف العالم وفهمه، وتطوير مهارات الحياة الأساسية الضرورية. وبهذا الإدراك، أعدت هيثكوت نفسها ملهمة ترجمت رؤياها إلى ممارسة صفية للفئات العمرية كافة، ولا تزال تلك الممارسة مصدر إلهام للملايين”(2)، وقد “ابتدعت هيثكوت مدرسة تطبيق كاملة للدراما، مستندة إلى إزاحة بيداغوجيا المعلم من موجه إلى مكثف، مدرب، مسهل، وفنان مشارك، مدركة ممكنات التعلم عبر عملية إبداع تشاركية تعطى فيها القوة للمتعلم” (3).
وعلى يدي هيثكوك تخرجت أجيال من الطلاب والمعلمين الذين ساروا على نهجها وأسلوبها التطبيقي والنظري الذي طرحته في عدد من الأبحاث والمقالات، وقد ترجمت مجلة رؤى تربوية الفلسطينية وفي عددها الخامس والثلاثين وفي الملف الذي خصصته لتجربتها التربوية، عددا من بحوثها للغة العربية ومنها: (علامات ومنبئات، إذن، أنت ترغب في توظيف لعب الدور؟)، (التوتر المنتج الأساس في أسلوب التعليم بمنظومة “عباءة الخبير”)، (التماسك الداخلي)، (التصقيل من أجل الإدراك)، و(سياقات للتعلم الفعال، أربعة نماذج لتمتين العلاقة بين التدريس والمجتمع).
وتعتمد مسرحة المناهج على عدة عناصر لتتحقق، وهي: استخدام موضوع تعليمي، ربط الموضوع التعليمي بخبرة من الحياة، صياغة الموضوع والخبرة في قالب درامي، الاستفادة من فن المسرح بعناصره لتقديم هذا القالب، وجود جمهور من التلاميذ المستهدفين لهذا العرض، يتم العرض داخل المؤسسات التعليمية (غالباً: الفصول الدراسية)، كما أن هناك ثمة مبادئ لا بد الاهتمام بها أثناء عملية مسرحة المناهج في المدارس:
“1-مراعاة الدقة العلمية وسلامة الحقائق والمفاهيم.
2-أن يكون من يقوم بهذه العملية مبدعا وملما بالنواحي التربوية.
3- أن تتوفر الحركة وأساليب الإثارة والتشويق والطرافة.
4-العناية برسم الشخصيات التي تقدم المضمون لنضمن تعاطف الطلاب مع تلك الشخصيات بخيالهم.
5-عدم الإسراف في عدد الممثلين أو تقارب صفاتهم وأسمائهم.
6- الحرص على الفكرة الأساسية للدرس الذي يجري مسرحته دون التطرف في التفاصيل المتشابكة.
7-الترابط الواضح بين الدرس وموضوع المسرحية.
8-بساطة الأسلوب واللغة المستخدمة.
9ملائمة المادة العلمية مع مستوى المشاهدين والمؤدين”(4).
وتكمن أهمية هذا الأسلوب التعليمي الذي بدأت الدعاوى تطلق متكررة لتفعيله في المدارس خاصة الابتدائية، كما يقول المخرج المسرحي جودي كيلي، بأن الدراما في المدارس “يمكنها تحرير قيود العقل لاستخدام ملكات الخيال، الذكاء، التقمص العاطفي والمجابهة. فبواسطتها، يمكن التعبير بحرية عن الأفكار والاستجابات والمشاعر وإيصالها للآخرين، فهي تحمل إمكانية التحدي والتساؤل والتحفيز على التغيير”(5)، وهذه الأهمية لا تختلف عن أهمية المسرح في المجتمعات الإنسانية، إذ أن المسرح هو الشكل الأكثر تطوراً من مفهوم الدراما بمعناه اللغوي والفعلي في العملية التعليمية، فالدراما كلمة أغريقية تعني (الفعل)، وهي شكل فني يقوم على عنصر التمثيل ويستخدم فيه الإنسان وسائط الفكر والإحساس والصوت والصمت والحركة والسكون للتعبير عن حدث ذو دلالة في الزمن الحاضر، والمسرح هو نفسه هذا الشكل الفني، ولكن يختلف بأنه يحتاج لمكان لعرض ولجمهور ولعناصر مسرحية يكتمل فيها الشكل المسرحي الذي تتعد اتجاهاته ومدارسه.
كما أن أهميته أيضاً في القدرة على تجاوز تقليدية التلقين في الدرس، خاصة مع التغيرات والتطورات الحضارية التي جعلت الحاجة ماسة لتغيير نمط الحصص الدراسية المملة لأطفال تشبعوا بكم هائل من الصور من عبر برامج التلفزيون والإنترنت وألعاب الفيديو، فالسبورة وحدها لم تعد قادرة على شد انتباه الطفل لتوصيل المعلومات إليه بشكل يسير، ولا يمكنها أن تخلق بيئة تدريس تفاعلية يكون للطالب فيها دور في العملية التعليمية، فتقليدية التدريس تجعل من المدرس صاحب السلطة على طريقة تفكير الطفل ويكون دوره فقط من يملأ الثغرات المعرفية لدى الطالب عبر التلقين، و”تتعارض تلك الممارسات التقليدية مع الأساليب التي يكون محورها الطالب، حيث يكون الطلبة هم المسيطرون على تعلمهم وتكون السلطة والمسئولية من اهتمامات الطالب. يصبح التعلم في هذه الحالة مستقلا وتبادليا وتعاونيا وتنافسيا. إن الدراما، كأسلوب تربوي هو لب طريقة التدريس التي يكون مركزها الطالب. فبدلاً من اعتبار الطلبة كائنات غير فاعلة، تسعى تلك الوسيلة لدعم دورهم الإبداعي الفاعل في عملية التعلم” (6).
وهذا الأسلوب لا يقتصر على منهج معين من مناهج الدراسة، كما هو سائد، فليست الموضوعات التاريخية وحدها تصلح لتتحول إلى درما صفيّة، بل يمكن إخضاع كل الدروس إلى هذا الأسلوب، متى ما عمل عليه معلم متمكن ومتفهم لأهميته، وقادر على خلق البيئة التفاعلية المطلوبة بغض النظر عن الدرس، فحتى المواد العلمية يمكنها أن تتحول إلى دراما يسهل على الطلب فهمها، ومنها مادة الرياضيات خاصة في الأساسيات التي يعاني منها الطلاب كجدول الضرب فيمكن أن تترسخ في ذهن الطالب ويمكنه استحضارها متى ما قدمت له بهذا الأسلوب التربوي.
عملياً، يمكن استخدام هذا الأسلوب بأنماطه الدرامية المتعارفة التي تقدم المادة العلمية عبر الشخصيات وعبر الحكاية، وأهم هذه الأنماط تلك التي ذكرتها فتحية إبراهيم صرصور في مقالها (مسرحة المناهج التعليمية بين الواقع والطموح)(7):
· التمثيل الصامت (البانتومايم Pantomime): ويعتمد على التعبير الحركي بواسطة الجسم.
· لعب الأدوار( ROLE Playing) : وهي طريقة تدريس، يؤدي فيه التلاميذ الأدوار الرئيسية لما يراد تمثيله.
· المواقف التمثيلية( Simulation) : وهي نماذج لمواقف واقعية.
· المسرحية (Drama): وهي نص سبق إعداده، ويستخدم فيها الملابس، والديكورات، وما يلزم لتنفيذ المسرحية.
· التمثيل بالدمى والعرائس ذات الخيوط(Puppet & Marionettes) : وهي محببة إلى نفوس الأطفال.
وتتشارك هذه الأنماط مع المسرحيات السائدة الموجهة للطفل، أو المسرحيات المدرسية، وهي أنماط قريبة من نفسية الطفل وذهنيته المتحفزة، فالتعبيرات الحركية أو الدمى أو التقمص أقدر على التعبير من الخطاب الشفوي أو المكتوب المباشر. وتكتمل عملية مسرحة المناهج بثلاث خطوات:
أولاً: مرحلة الإعداد: وفيها تتم كتابة أو اختيار النص الملائم للموضوع المطروح والملائم للفئة الدراسية المستهدفة، والذي يجب أن تتوفر فيه اللغة والحوار الملائم والقريب من هذه الفئة، إضافة إلى أن في هذه المرحلة يتم اختيار الممثلين وتوزيع أدوارهم وملابسهم والديكور إذا لزم وجوده، والتدريب على المسرحية.
ثانياً: مرحلة التدريس: وفيها يتم عرض المسرحية على الطلاب بالتشارك فيما بينهم وهي مرحلة التلقي الفاعل والتحفيز على إثار الأسئلة.
ثالثاً: مرحلة التقييم: وهي المرحلة الأهم التي يُختبر فيها قبول الطلاب للمسرحية المقدمة وتقييمهم لها ومستوى وصول المعلومة إليهم وترسيخها من خلال المناقشة الفاعلة بين المعلم والطلاب.
إضافة لذلك فإن هناك عدد من التمارين الصفية الدرامية التي وضعها التربويون لتطبيق هذا الأسلوب داخل الصف، والتي تهدف أولاً لتهيئة الطلاب للدخول في هذه اللعبة التعليمية بقدرة وتحفز، وقد وضعت دوروثي هيثكوت مجموعة من التدريبات في أبحاثها وكتبها وورشها التي تقيمها للمعلمين لتمكنهم من تدريب الطلاب للمشاركة في المناهج الممسرحة.
الطلاب في مدارسنا يحتاجون لمثل هذه الأساليب المدهشة والتي ستسهم في تحبيب المدرسة لهم ليصبح الدوام المدرسي أشبه برحلة ترفيهية يتوازى فيها الدرس مع المتعة، فأكيد ستحقق المدارس التي تطبقه نتائج في مستوى الكم والكيف المعرفي لدى الطلاب، وسنسهم في تكوين جيل يملك خبرات حياتية لا يملكها خريجو الأساليب التقليدية. وهذا هو دور وزارات التربية والتعليم في الدول العربية، ولن يتأتى هذا إلا بالإيمان الأكيد بأهمية المسرح والدراما في حياة الناس، وكيف يمكن لهذا الفن أن يخدم العملية التعليمية.
مصادر:
- المسرح التعليمي المصطلح والتطبيق- د.كمال الدين حسين-الدار المصرية اللبنانية-ط1-2005
- نعي دوروثي هيثكوك-مجلة رؤى تربوية-العدد 35
- نفسه
- مسرحة المناهج التعليمية بين الواقع والطموح بقلم: فتحية إبراهيم صرصور-دنيا الرأي-6/9/2007
5. Drama in schools, second edition-Arts Council England-October 2003
- إنطلاق المسرح التعليمي والدراما..نتائج وتوصيات البحث المسرح التعليمي والدراما-ورقة البحث الفلسطينية الدراما تحسن مهارات لشبونة الأساسية في التعليم-
http://www.dramanetwork.eu/file/greenpaper%20Palestine%20arabic.pdf
- مسرحة المناهج التعليمية بين الواقع والطموح بقلم: فتحية إبراهيم صرصور-دنيا الرأي-6/9/2007
مقال جمييييل ومتكاااامل بابداع جميع عناصره👌🏻