
تضاء الخشبة إضاءة خفيفة، يبدو المكان بيتاً مهجوراً، أقرب للخربة، أحجار متراكمة وأغراض مرمية بشكل فوضوي. نافذة في عمق المسرح قلعت إحدى درفتيها. من البعيد يسمع صوت كلاب تنبح بشكل متقطع، تتلوها أصوات طلقات رصاص في الهواء. لحظات وتختفي الأصوات، ويعود الهدوء. بعد برهة، يدخل أمين بخطى خائفة، يلهث وهو يتلفت يميناً ويسارا. يدخل وفي يده حقيبة ملابس يدوية صغيرة وعلى ظهره حقيبة أخرى. يدخل إلى عمق المسرح بحذر شديد. يقترب من النافذة ويطل منها للخارج بحذر شديد. يراقب الخارج بخوف. يتنفس الصعداء. يبتعد عن النافذة ويقف في وسط المسرح. يضع الحقيبة على الأرض، وينزل حقيبة ظهره. يجلس على الأرض شبه منهار، يتنفس بسرعة والعرق يتصبب منه. يمسح العرق بكم قميصه، يراقب المكان بنظراته، ويفتح حقيبته ليخرج منها قارورة ماء. يشرب منها ويغسل رأسه ووجهه.
أمين: (كأنه يصيخ السمع) لا أصوات. يبدو أنهم ضلوا طريقي ولم ينتبهوا لوجودي هنا. الحمد لله. سأكون آمناً هنا.
يقف متصفحاً المكان، وبعد لحظات يمسك بعض الأغراض المتراكمة، يخرج وسادة قديمة من بين الركام، ينفض عنها الغبار الذي يسبب له كحة مفاجئة، يترك الوسادة على الأرض.
أمين: (وهو ينفض يده من الغبار) أي مكان هذا الذي رمتني فيه خطواتي الخائفة؟، مكان خرب في أقصى المدينة. لم أمر يوماً به، ولم أعرف بوجوده. لكن يبدو أن أجساداً مرت من هنا وأرواحاً حلقت في سقفه (وهو يتصفح المكان بنظراته) لولا فوضاه، لكان مكاناً صالحاً لأن أبقى فيه لأيام حتى أتدبر أمر خروجي من المدينة.
يبتعد متجهاً للنافذة ويحاول إغلاق الدرفة المفتوحة.
أمين: (وهو مشغول بإغلاق النافذة) لكن لا بد أن لا أٌشعر أحداً بوجودي هنا، رجاله يملؤون المكان. ربما يعودون غداً أو بعده، متأكد أنهم سيفتشون المكان. لو وجدوني لذهبت عن هذا العالم برصاصة أو بعضة كلب من كلابهم المسعورة.
ينجح في إغلاق النافذة.
أمين: (يقف مطمئناً أمام النافذة) لن يشعروا بوجودي هنا، أنا متأكد منذ لك. لن يتخيلوا أن أحداً يمكنه البقاء في هذه الخربة.
يبتعد عن النافذة، ويبحث يميناً ويساراً
أمين: أتعبني الركض والهرب من أصوات الرصاص والكلاب التي ترافقها. أحتاج للنوم. لا بد أن أنام حتى أجد طريقة للهرب من هنا وترك المدينة بمن فيها. ترك كل شيء.
يتجه للوسادة ويضعها على الأرض بعد أن يضربها لنفضها من الغبار. يضعها على الأرض. ويجلس.
أمين: لا أدري إذا كنت سأستطيع النوم على هذه الوسادة؟، (بأسى) إنها المرة الأولى لي وأنا بعيد عن بيتي. كل مساء أنام على وسادتي التي يرتبها لي أبي منذ أن ذهبت أمي إلى الغياب، يرتب سريري رغم عمري الذي جاوز الخامسة والعشرين، يرتبه بيد من دفء فلا أشعر بالبرد أبداً. لا أدري كيف سيتحمل غيابي. لكن هو من قال لي: اترك المدينة، وجودك خارجها أمان لك. إيه يا أبي، لقد هربت ولم أتركها طواعية، تركتها خائفاً.
يجلس القرفصاء وعليه يبدو الحزن.
أمين: كان يملك حدساً، أو ربما هو يعرف عني أكثر مما أعرف. قال لي، إياك وهذا الدرب. إنه موحش. لم أكن أتصور أنه أكثر وحشة يا أبي مما تصورته (يستلقي ويضع رأسه على الوسادة مهموماً) هذه اللحظة، أشعر أني وحيد في هذا العالم. بلا أحد، أي أحد. حتى أبي الذي لا أعرف كيف سيضع رأسه على وسادته الليلة. أعرف تماماً أن عينيه لن تغمضا. (يتنهد) وربما لن تغمض عيناي أيضاً.. (يصمت لبرهة) لا أدري كيف سأنام في هذه الوحشة التي تنتابني؟. لا بد أن أشتت وحشة المكان ووحشة الليل بالقراءة. سأكمل روايتي.
يعدل جلسته، ويبحث في حقيبة ظهره، يخرج كتاباً منه.
أمين: (يفتح الكتاب) شخصية الرواية تشبهني كثيراً، أشعر أني أقرأ حكايتي. كثيرة هي التفاصيل المشتركة. كأن الكاتب يعرفني. لولا بعض الاختلافات لقلت أن الكاتب يستشرف مستقبلي (يفتح الكتاب) إنه روائي مبدع، سرده يأخذ القارئ إلى عوالم الحكاية.
يخرج من حقيبته مسجلة صغيرة، يشغلها ويسمع صوت موسيقى هادئة.
أمين: وها أنا أبدأ بطقوس قراءتي، الموسيقى وكوب شاي. (يستدرك) شاي؟، من أين لي بالشاي في هذا المكان؟.(لحظات) لن أفسد طقس القراءة. سأقرأ وإن افتقدت كوب شايي.
يتعالى صوت الموسيقى، ويبدأ أمين بالقراءة وتقليب الصفحات.
أمين: (يتوقف عن القراءة وبدهشة) ذات الحكاية، ذات الأحداث حتى منتصف الرواية. أخاف أن أكملها وأرى ما ستؤول له أحداث حكايتي. لا أريد أن أعرف كيف سأنتهي من رحلة الهروب هذه. أحب أن أترك القدر يلعب لعبته. القدر وحده يحرك الأحداث، لا خيال روائي.
يترك الكتاب جيداً.
أمين: خوفي من أحداث الرواية يجعلني غير قادر على إكمالها. كيف أقرأ ذاتي وما يحدث لي في كتاب. إنها فكرة مرعبة. (يبدأ بالبحث في الحقيبة) سأبحث عن كتاب آخر.
يبحث في حقيبته عن كتاب، لكن لا يجد شيئاً.. يبدو عليه الإحباط.
أمين: (محبطاً) كيف نسيت أن أحمل كتباً أخرى معي؟، كيف سأقضي هذا الليل وحدي وأنا المعتاد على رفيق؟. الكتاب وخيالاتي، وصورة حبيبتي (يتنهد ويزفر زفرة)
يقف، ويقترب من النافذة. يحاول فتحه لكنه يتوقف.
أمين: كنت كل ليلة أقف عند نافذة غرفتي، أبحث عن وجهها في السماء. عن وجهها المطبوع على قمر المنتصف. كانت تكسر وحشتي وخوفي وقلقي. كنت أشعر بوجودها بجانبي كل ما طالعت في القمر البعيد (يتنهد) يا الله، يا لذة الحب. أي أمان كان الحب يُشعرنا به. الحب حضن آمن، أشبه بوطن ينزع من صدرك الغربة.
يفرك جسده، يرتعش من البرد.
أمين: أشعر بالبرد، رغم أن الشتاء بعيد عن أبوابنا. من أين يأتي هذا البرد الذي يبس أصابعي فجأة.
يتجه ناحية الأغراض المتراكمة، يبدأ بالبحث، يبعد الأغراض عنه، ويواصل البحث. يجد بطانية قديمة، ممزقة. يسحبها من تحت الركام. ينفضها فيتطاير الغبار منها. تنتابه نوبة كحة، يكح طويلاً ويسقط على الأرض. تتوقف الكحة، يلف جسده بالبطانية. يجلس، ويلف جسده جيداً. يبدو عليه الإنهاك.
أمين: لم أتصور أن الغبار بهذا القدر، يبدو أنه لم يمر أحد من هنا منذ سنوات طويلة. رغم أن المكان يبدو أنه يعج بالحكايا (وهو ينظر للجدران) على جدران المكان حكايا الناس الذين عاشوا هنا. لا أدري إن كانوا مثلي، أم مثلها. بالتأكيد أن في المكان حكايا عشق، حكايا حبيبين (يتنهد) ربما فرقت بينهما الظروف. ربما تعلقت روحاهما للأبد. ظلا حبيبين.
يقرب قنينة الماء منه، ويغسل وجهه. يشرب بعض الماء.
أمين: (يتنهد بحزن) أنا وأنت يا سلمى، لم يكتب لنا أن نظل معاً. لم يكن حبي لك أماناً، بل كان جحيماً دخلته بملء إرادتي. كان يمكن أن أحب غيرك تشبهني، مثلي تماماً. لماذا يعاندني القدر لأحبك أنت دون غيرك؟. القدر يعاندني في كل شيء. منذ ولادتي وحتى هذه اللحظة التي لا أعرف ما ينتظرني بعدها. ما زالت في ذاكرتي لحظة قلت لي “أحبك”، كانت موسيقى تسربت إلى كل أرجائي، موسيقى أخذتني إلى عالم من الأحلام اللذيذة. سلمى تحبني، صرخت (يصرخ) “سلمى تحبني”. لقد قالتها، قالت “أحبك يا أمين”، هل تخيلتِ يا سلمى كيف جرفني موجك؟، لم أكن لحظتها كما كنت. صرت شخصاً آخراً. أكثر فرحا، أكثر تفاؤلاً، كنت أشعر أن ثمة ياسمينات تتناثر في كل خطوة أخطوها. كنت جنتي التي حلمت بها. وكنت أظن أن جنتي أبدية. لم أتخيل أنها مجرد حلم وانتهى.
يمسك بالكتاب على مضض، يفتح صفحة.
أمين: تماماً كما كتب الراوي في روايته، الحكاية التي انتهت سريعاً. حكاية “أحبك” التي تلاشت كما يتلاشى الصدى. يقول الراوي (يقرأ من الكتاب وهو يتحرك في المكان) “قالت له أحبك، وتوقف الزمن، لم تكن ثمة دقائق ولا ثوان ولا ساعات. توقف الزمن، وتوقفت حتى ذاكرته التي تراكمت الصور فيها، لم يبق سوى صدى “أحبك”، وصورة شفتيها التي انغلقتا حين نطقت حرف الباء” (يتوقف عن القراءة) تماماً، شفتاك انغلقتا كقبلة شهية حين نطقتِ الباء. ولكن كانت كل حروف أبيك صفعات أودت بي إلى اليأس.
يعود للقراءة في الكتاب
أمين: (يقرأ) “ظل معلقاً بتلك الـ(أحبك)، معلقاً كل أحلامه عليها، يتذكرها كلما أنتابه الوجع. لم يكن يظن أنها كانت طلقة النهاية التي اخترقت صدره، وقتلت كل تلك الأحلام المعلقة” (يرمي الكتاب مذهولاً) ما التي تفعله الرواية بي؟، كأن الراوي استوطن رأسي وأخرج كل ذاكرتي، وأحالها كلمات بين غلافي كتابه. ما هذا التطابق المريع بين حكايته وحكايتي. أم أن حكايتي تشبه حكايات آخرين. ألهذه الدرجة نحن نشبه بعضنا حتى بتلك التفاصيل الصغيرة؟!. لا أدري إذا كنت أملك جرأة إكمال الرواية. أخاف أن أقرأ حتفي فيها، أو أقرأ عن نهاية سعيدة. نهاية رجل بلا أوراق بين أنياب كلاب متوحشة، أو برصاصة موت. أو نهاية سعيدة تنقله إلى طرف العالم بعيداً عن المكان الذي ولد وعاش وتربى فيه، وأحب فيه، وكانت أكبر خطاياه (يضحك بسخرية) سخرية القدر أن يكون الحب خطيئة.
يتنهد، وهو يتحسس أوراق الرواية بيده.
أمين: هي مجرد أوراق لا أكثر، كيف لها أن تحدد هوية الناس. حبر على ورق ممهورة بختم رسمي، تكون بعدها ابن هذا البلد أو ذاك. مجرد أوراق خفيفة يعطيها الختم معنى. بل تعطي الإنسان معنى ومبررا لوجوده، أوراق تصنفنا وتوزعنا وتفرقنا، ربما نكون متشابهين تماماً إلا من الختم على ورقة الجنسية (يتحدث للكتاب) لو كنت تحمل جنسية أخرى أيها الروائي غير جنسيتك، أو لا تحمل أوراق هوية مثلي ولا جنسية تصنفك، لما كنت استطعت طباعة روايتك. مهما كانت الرواية عظيمة.
يصمت قليلاً، يمزق ورقة من الرواية ويرميها بعيداً إلى الأعلى، تسقط خفيفة. يراقبها
أمين: مجرد أوراق يمكن أن تتلاعب بها الريح، فهل هوياتنا خفيفة كهذه الأوراق؟. يمكن أن تعبث بها الريح، وتتطاير كأوراق الرواية. كأي ورقة بلا قيمة؟. هل الختم وحده ما يعطيها القيمة؟، هل صنفها ما يعطيها القيمة؟. ونحن؟، لا قيمة لنا كبشر دون أن يكون لنا أوراق مختومة؟. وإلا نكون أرقاماً بلا معنى.
يمزق أوراق الرواية ورقة ورقة ويرميها إلى الأعلى
أمين: (يرمي الأوراق بهستيريا) أوراق، أوراق .. أوراق دون ختم. أوراق تتناهبها الريح. أوراق يمكن أن تذيبها قطرة مطر، فيضيع الختم والصنف والجنسية. أوراق.. أوراق
ينهي أوراق الرواية تماما.. ولا يبقى سوى الغلاف. ينتبه لما فعله بهستيريا.
أمين: (مصدوماً) ما الذي فعلته؟، كيف سأعرف نهاية الرواية؟، سأفتش عن أخر الصفحات.
يبدأ بالبحث، ورقة ورقة، وهو يلم الأوراق التي تطايرت. يجمعها في مكان واحد. ويبحث
أمين: لا أتذكر كم كان عدد صفحات الرواية، 200 أو 250 .. لا أدري ربما 300 صفحة (يبحث عن الصفحات بالأرقام) أين النهاية؟، كيف أكمل الرواية وأنا مزقت كل أوراقها في لحظة جنون (بندم) يا لي من غبي.
يبحث في الأوراق، ثم يتوقف عن البحث. يقف، يأخذ قنينة الماء. يشرب منها قليلاً. ثم يصب الماء بكل هدوء على الأوراق المجمعة. يغرقها بالماء. يضحك
أمين: ها أنا تخلصت من النهاية التي رسمها الراوي، لا بد من نهاية جديدة، لا تشبه نهاية الرواية. بيدي سأصنع نهاية أخرى، لم تخطر ببال الراوي. أمين، لا ينصاع لأحد، حتى للمصير الذي رسمته الرواية. أمين سيصنع مصيراً آخراً، كما صنع نفسه منذ طفولته.
يركل الأوراق المتجمعة
أمين: لم يعد لروايتك أثر أيها الكاتب. ولا أرغب في قراءتها. لا أرغب في القراءة هذه اللحظة. فجل ما أفكر فيه وسيلة تأخذني للبعيد. أو طريقة أملك فيها أوراقاً مختومة (بإصرار يرفع صوته) وأنا من سيحكي حكايتي، وليس أنت من تفرضها علي. وسيعرف الناس حكايتي لا حكايتك. سيعرفون من هو أمين، وكيف عاش، كيف كانت طفولته التي لم يشعر فيها أبداً أنه بلا أوراق. لديه أب كسقف خيمة، لم يشعره يوماً بالحاجة. كان يتعب ويكدح لياليه وأيامه حتى يوفر ليتيم الأم لقمة عيش وكتباً. لكن في روايتك أيها الكاتب، لم يكن البلا أوراق يتيم الأم، وكان فقيراً بسيطاً. أما أنا فلم أشعر بالفقر. كنا من طبقة متوسطة. لم نحتج لأحد، لذا لم أشعر بأني بلا أوراق. لم أشعر في الماضي بحاجتي لختم تمهر به ورقة هويتي.
يصمت قليلاً، ويبدو عليه الحزن. ينفث آهة عميقة.
أمين: (على وشك البكاء) كل ما تذكرت أبي، أشعر بألم يسكن صدري. لم أفترق عنه أبداً وها هو يأمرني بأن أبتعد، ليتني ابتعدت طواعية يا أبي كما قلت لي. لا أدري كيف أقضي الليلة بعيداً عنه وكيف يقضيها هو بعيد عني؟. (يبكي) كم أحتاج لحضنه هذه الساعة، أحتاج لأن أفرغ كل دموعي التي احتبست في محجريّ على كتفه. أحتاج يده تربت على كتفي وتنسيني حزني. أحتاج ابتسامته التي لم يغيرها ما حفر الزمن على وجهه من خرائط عمر (يصرخ) أحتاجك يا أبي. أحتاج يدك تغطيني في نومي فأنا اعتدت دفء يديك رغم أني أصبحت رجلاً. أحتاج لحكاياتك التي لم تنس ان تحكيها لي قبل النوم أبداً. أحتاج للعبة شطرنج معك، لا أبالي إن غلبتني مراراً، سأرضى بهزيمتي وأرضى بابتسامة انتصارك وأنت تقولها بثقة: “كش ملك”، لكن أعود إليك. أعود للبيت، ولدفء سريري وكتبي. هل للبلا أوراق في روايتك أب كأبي أيها الروائي، لا تملك قدرة الخيال لترسم شخصية أبي في روايتك. لا.
يجلس على الأرض منهكاً، يبحث في الحقيبة. يخرج صورة لأبيه. يحتضنها بقوة ويقبلها. يقف ويضعها في مكان على الجدار ويثبتها ببعض الحجارة، يبتعد قليلاً، ينظر للصورة.
أمين: هكذا افضل، يمكنني أن أراك في كل لحظة، لن أغفل عن صورتك أبداً.
يقترب من الصورة ويجلس بجانبها.
أمين: في الرواية يا أبي، كتب الراوي أن البلا أوراق لم يخبر أمه بقصة حبه للفتاة. كان خائفاً لأنه يعرف أن مصير هذا الحب هو ألا يتزوجان. هو بلا أوراق وهي ابنة تاجر كبير، كسلمى. لكن حين أخبرتُك بقصة حبي لسلمى وكيف أحبتني هي. ابتسمت، ربت على كتفي وقلت “لقد كبرت يا أمين، صرت تحب وتفكر في الزواج”. لم أظن أن ابتسامتك كانت تخبئ خوفاً. وتخبئ رفضا لهذه العلاقة التي لا مآل لها سوى أن تنتهي. (يواجه الصورة) أتذكر يا أبي حين كنا نلعب الشطرنج وأثناء نقلك لأحد الأحجار توقفت وقلت لي “هل تعرف يا أمين أننا بلا أوراق، نحن بلا جنسية”، استغربت من تذكيرك إياي رغم أني كنت أنسى أو أتناسى حتى أعيش وأتعايش كأنني بأوراق وختم وجنسية. وأكملت: “لماذا اخترت سلمى بالتحديد؟، سلمى ابنة تاجر معروف ولن يرضى أن يزوج ابنته لشاب بلا أوراق”.
يتوقف عن الكلام ويبدو مصدوماً، وكأنه يمسك بحجر شطرنج على وشك نقله على رقعته.
أمين: صدمتني يا أبي، ولم لا يرضى؟. ألا يؤمن بالحب؟. سلمى ابنته ولا بد أن يبحث عن سعادتها. وأنا سعادتها (يقف) صدقت، وقد أكون تعاستها، هذا ما قلته لي تماماً. أصبح وجودي تعاستها، لم أكن أتخيل أن الأوراق تحدث فرقاً، تصنع منا قيمة وتجعلنا بشراً. أبو سلمى كان يحبني، كان طيباً معي. رفيقاً بي، ما زلت أتذكر أول هدية حصلت عليها من غريب، كانت منه. اللعبة لم تبرح مكانها في غرفتي منذ كنت طفلاً. ولم يدر في ذهني أبداً أن يطردني من بيته، تخيلت أنه سيفتح لي قلبه باباً مشرعاً. وسيقول لي:”أنا سعيد بك يا أمين، لا أحد يصلح لسلمى مثلك”. لكنه فاجأني: “هل تعرف من تكون يا أمين حتى تتزوج سلمى؟”.
يقف أمين مصدوماً لبرهة
أمين: (مشدوهاً) أنا أمين ابن سالم صديقك. تعرفني منذ كنت طفلاً، تحبني كما ظننت. كنت تحبني كابنك. لا أنسى عطاياك. ظننت أن لي حظوة عندك، سترضى أن أكون زوج سلمى. (يقلد صوت أبي سلمى مقاطعاً) “لكنك بلا أوراق”. نعم بلا أوراق، سأنجب أطفالاً بلا أوراق. وأظل حياتي كلها بلا أوراق. من حقك أن تقلق على سلمى، هي ابنتك، وتبحث لها عن حياة أفضل، لا حياة بلا أوارق. لكنني أحبها وهي تحبني. الحب أكبر من كل هذه التفاصيل. الحب يكسر كل جامد. ألم تحب قبلاً؟. كان سؤالي كشتيمة، أنفجر أمام وجهي: “أنت بلا جنسية، بلا وطن. أحذرك، إن اقتربت من سلمى سأقتلك”.
يقف أمين حائراً، مضطرباً.. يذرع المكان جيئة وذهاباً
أمين: أحبها، ألا يعلمون ماذا يعني الحب؟. ماذا تعني تلك الموجة التي تجرفك وتأخذك إلى عالم ليس كهذا العالم. الحب يجمل كل الأشياء من حولك. وسلمى حولت كل شيء حولي إلى عالم من الجمال. لا أستطيع ألا أفكر فيها، ألا أحبها أكثر وأكثر. (يتوقف قليلاُ) والجنسية؟، والوطن؟ (يصمت قليلاً ثم يجيب) الوطن ليس أوراقا مختومة تنتهي صلاحيتها، الوطن تراب تحتمي به أرواحنا، بل دم يعطينا معنى الحياة. أنا ابن هذا الوطن وإن لم أحمل جنسيته. ابنه رغم أني بلا أوراق. أنتم لا تفهمون من الوطن سوى ما يسجل في بطاقاتكم أو جوازات سفركم. وطني لا يشبه وطنكم. وطني ليس اسماً مجرداً.
يتجه إلى صورة والده
أمين: (للصورة) ألم تعلمني ذلك يا أبي؟، أنا ابنك وما تعلمته منك يكفيني. لكنني لم أتعلم منك أن أستسلم لواقعي. نحن بلا أوراق فمن الممنوع علينا أن نحب ونتزوج وننجب. لا بد أن نتزوج بلا أوراق مثلنا. اليوم فقط أيقنت بأن كل ما كنت تقوله صحيح، كله بلا استثناء. وأنا الذي وجدت أنك لم تكن صائباً في حكاية حبي لسلمى.
يبتعد عن الصورة، ويقترب من منتصف المسرح
أمين: سلمى التي واعدتني بحب وزواج وأطفال وحياة سعيدة. وقالت: أحبك رغم كل شيء، رغم الأوراق التي لا تمتلكها، حبنا سيعطي لزواجنا هوية، وسيعطي لأطفالنا جنسية. حبنا سيكون حكاية لن تنتهي، يرددها كل أهل البلد. سلمى وأمين حكاية حب. (يتنهد) آه يا سلمى، يبدو أننا كنا نعيش خارج الواقع. نعيش أحلامنا دون أن نفكر في واقع أقوى منا. الحب لم يكن يكفي لنبقى معاً. نحن بعيدان الآن، ربما لن نلتقي أبداً، لكن سأظل أحبك، سأبقيك في ذاكرتي كأول حب (كمن يتذكر) أتذكرين يا سلمى عندما كنا صغاراً؟، لا نريد من هذا العالم سوى لحظة فرح نقتنصها. أتذكر البيت الخشبي الصغير الذي صنعتهِ ببقايا الخشب. بيت كبيوت أفلام الكرتون. كان بيتنا الذي حلمنا به، كنت تقولين. هذه غرفتنا، وهذه غرفة أولادنا، وهذا المطبخ. نعيش في عالمنا البسيط ونضحك (يتنهد) ليتنا لم نكبر، ليتنا ظللنا أطفالاً نلاحق الفرح. ليتنا ما كبرنا لندرك أن زواجنا مستحيل. نعم مستحيل يا سلمى ولكننا آمنا بأحلامنا، ظننا أن في هذا العالم متسع للحب. ظننا أن أباك سيغض النظر عن كوني بلا أوراق. كنت أطمئن لحبه، لما يغدقه علي من هدايا في طفولتي. وأطمئن لصداقته لأبي. ماذا أسمي كل هذا؟، أليس شراعاً يحمل أحلامنا لمرفأ آمن؟!.
يتجه لحقيبته، يفرغ ما فيها من أغراض، ويخرج شالاً نسائياً، يحتضنه ويشمه
أمين: هذا ما بقي لي منك، غير صور تحتضنها ذاكرتي (يشمه بعمق) رائحة عطرك ما زالت عالقة. أشم فيه كلامك، أشم فيه صوتك، أشم فيها كلمة أحبك. ها أنا احفظ شالك في حقيبتي كما أحفظك داخل صدري. في آخر لقاء قبل أن ينكشف أمرنا، قلت لي. خذ هذا الشال، لا تفقده، فربما تفقدني. كنت أتشبث ببعض الأمل، ربما يحن أبوك على عاشقين مغرمين. ربما يصفح عن كوني بلا أوراق. كنت أنتظر أن يبرد غضبه. ربما يفكر مرة أخرى. أليس هو من قال في طفولتي حين وجدنا نلعب سوية: “أتحب سلمى يا أمين؟”، (يهز رأسه) نعم أحبها. وضحك، مسح على رأسي وقال: “ربما تتزوجان يوماً”. وها حان هذا اليوم، لكنه رفض. لم يكفه ما دار في المرة الأولى. جاء إلى بيتنا غاضباً. لم أره غاضباً في وجه أبي كما كان، (يقلد صوت أبي سلمى غاضباً) “أبعد ابنك عن سلمى يا أبا أمين، أنت تعرف أنني لا يمكن أن أزوج ابنتي لشخص بلا جنسية، حين يحصل على جواز سفر، بيتي مفتوح له، وسلمى ستكون له” (محبطاً) من أين لي بجنسية؟، لو كان الأمر سهلاً لما كان أبي بلا أوراق لينجب ولداً بلا أوراق. ما الذي يشفع لي لأستحقها؟، أليس هواء هذه البلد هي أول ما دخل صدري؟، أليس ترابها أول ما وطأت قدمي؟، أليس لساني الذي يتقن كلام أهلها كافٍ لأكون ابن هذه البلد وأستحق جنسيتها؟! (يصرخ) أنا إبن هذه البلد، إبن الوطن الذي لا أعرف غيره، لا أنتمي لغيره. جنسيتى هو وشعوري وانتمائي. ألا يكفي؟. ألا يكفي كل هذا لأستحق أن أحب وأتزوج وأنجب؟. أعشق فتاتي ونظل معاً؟.
تتهادى صوت موسيقى (متخيلة) ويبدأ أمين بمراقصة الشال كأنه فتاة
أمين: أعشقها ونرقص معا، تذوب روحانا، تتوحدان، نعيش حباً وموسيقى ورقصا.
يصمت قليلاً ويواصل الرقص
أمين: (كأنه يحدث سلمى المتخيلة) لم تكن فكرتك صائبة، الهروب ليس حلاً. كيف استطعتِ إقناعي بفكرة الهروب يا سلمى؟، أن نهرب يعني أن نصنع عداوة مع أبيك. سيكرهني ولن يغفر لي ولا لكِ. ولن يغفر لأبي رغم أن لا ذنب له (يصمت قليلا وهو يراقص الشال) حبيبتي سلمى أحبك وأحب الصباحات التي افتتنت بها وكانت صباح الخير يا عمري بدايتها ومنتهاها. لكن هل يكفي الحب هذا؟، أيكفيكِ أن تعيشي مع رجل بلا أوراق، تنجبين أطفالاً بلا أوراق؟. ينبذك أبوك وأهلك. يرونك مارقة لا تستحقين الرأفة؟.
يضع الشال على الحقيبة. تتوقف الموسيقى. ثم يتجه لصورة والده
أمين: (معتذراً) أبي، لم أكن أريد أن أهرب معها، لم أفكر في الأمر، لأني أدرك أي مغامرة هي. لكنني هربت، أخذَت يدي وارتدينا الليل وخطفتنا الريح، هربنا، كنا نركض مذعورين، دخلنا الغابة لكن لا نعرف إلى أين تأخذنا. يدها كانت تمسك بيدي، كغريق يبحث عن مأمن، ولم تدرِ أنني ذاتي الغريق. ركضنا وركضنا، لم ندر أن أمرنا انكشف. سمعنا صوت الكلاب خلفنا، طلقات الرصاص. ركضنا خوفاً، انفلتت يدي من سلمى، سقطت على الأرض، توقفت سلمى لتساعدني لكن لم تستطع، كان الرجال وكلابهم قريبين منا، هربت باتجاههم لتبعدهم عني وتنقذني (يتعالى صوت كلاب عن قرب) كانت تضللهم عن مكاني. أستطعت الوقوف. ركضت ولا أدري كيف أوصلتني رجلاي إلى هنا.
يتنبه لصوت الكلاب، تتبعها أصوات الرصاص، الصوت يقترب تدريجياً. يقف وعليه يبدو الخوف، تقترب أصوات رجال
الأصوات: في ذلك المبنى، يبدو أن أحداً هناك..
تقترب الأصوات أكثر وأكثر، يبدو الخوف على أمين..
أمين: يا إلهي، كيف وصلوا إلى هنا ثانية؟. ما الذي سيحدث لي؟. كيف أختبئ منهم؟. أي نهاية ستكون نهايتي؟. ماذا كتب الراوي في روايته؟، علي أن أبحث عن صفحة النهاية.
يهجم على الأوراق المتناثرة على الأرض، يبحث عنها ورقة ورقة بهستيريا وهو يردد
أمين: (بهستيريا) ماذا كتبت، كيف كانت نهاية بطلك.. أين ورقة النهاية.. أخبرني أيها الراوي .
يأخذ ورقة بيد يقرأ سريعاً ويرميها جانباً، الأصوات تقترب أكثر وأكثر.. تصبح قريبة جداً وكأنها على مشارف المكان.
الأصوات: هنا، لقد وصلنا..
يجد صفحة النهاية من الرواية، يقرأها، يفتح فمه وعلى وجهه الصدمة تتحول إلى ابتسامة ثم صدمة، مشاعر وملامح مختلطة، تقترب الأصوات أكثر وأكثر، صوت رصاص في الهواء يقترب وأصوات كلاب.
-إظلام-
3 ديسمبر 2017
أستاذ عباس السلام عليكم يسعدني ويشرفني أن أقدم نص حضرتك البلا اوراق فى مهرجان المونودراما بمصر و أرجو موافقة حضرتك
أحببت هذا النص المسرحي ، أريد العمل عليه . هل يمكنني ذلك يا أستاذ عباس
مرحبا .. لا بأس يمكنك التواصل معي عبر الايميل
anoor73@gmail.com
أو على الواتساب 00966506816311
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته معكم المخرج المسرحي زكرياء بنخلفية من المملكة المغربية الشريفة استاذي العزيز يسعدني ويشرفني ان اشتغل على نصكم الجميل البلا أوراق وأريد منكم قبول دعوتي للإتصال عليه مع كامل الإحترام والتقدير
زكرياء بنخلفية benkhalfiaz@gmail.com