المهرجانات المسرحية كمبدأ مهمة جداً في تطوير الحراك المسرحي في أي بلد كان، فالمهرجان بطبيعته هو خلاصة ما تقدمه الحركة المسرحية، خلاصة الموسم المسرحي الذي يقدم للجمهور، والجمهور هو طرف المعادلة المهم. إذ هناك ثمة عرض (ملقي) يقدم لجمهور (متلقي)، فالمهرجانات بطبيعتها حاضنة للعروض المسرحية وتقدم حالة مسرحية ضرورية، حيث العروض والندوات والفسح النقدية والتثاقف وهي مما يدفع بالتجربة المسرحية نحو الأفضل، ولا ننسى أن المسرح بدأ بحالة مهرجانية طقوسية أيام الأغريق. في المسرح العربي، ومنذ ظهر المسرح في وطننا العربي لم تكن المهرجانات هي الهم ولا الغاية في تقديم العرض المسرحي، بل كانت الغاية الأولى هو تقديم المسرح للجمهور، ولكن بعد أن ظهرت المهرجانات باتت هي الغاية وسحبت بساط الأهمية من تحت أقدام الجمهور الذي بات غريباً عن المسرح والمسرح غريباً عنه.
تتكاثر المهرجانات العربية المسرحية وتتنوع، ولا يمر يوم دون خبر عن مهرجان محلي أو عربي، بشتى توجهاته وأنواعه. والجميل في هذه المهرجانات أنها حفزت المسرحيين على تواصل الاشتغال المسرحي ولم تترك المسرح يخبو بريقه في زمن السوشيال ميديا وتعاظم الاهتمام بالسينما والدراما، فالمهرجانات وحسب وجهة نظر شخصية كانت المنصة المفتوحة لمداومة المسرحيين على ممارسة المسرح. وإلا لن يجدوا منصة أخرى يقدمون عروضهم في وقت بدت حالة التقشف والتقتير على المسرح والثقافة بعمومها هي السائدة، فلا موازنات تكفي ولا بنية ينطلق منها المسرحيون. فلولا المهرجانات لخبا المسرح في كثير من الدول العربية.
الاشكالية في المهرجانات وتزايدها، هي أنها باتت غاية الاشتغال المسرحي، وليس التجريب والتجربة والتواصل مع الجمهور، فالعرض المسرحي ينفذ لغاية المشاركة في المهرجان، فتستنزف طاقات الممثلين والمخرج والطواقم الفنية لأشهر من أجل عرض واحد قد ينجح أو يخفق، وكل هذا دون مقابل، عروض مسرحية لا يشاهدها سوى نخبة من المهتمين أو المسرحيين أو من جمهور المهرجانات، ويحرم منها الجمهور العادي. فكم من عروض سمعنا عنها، شاركت في مهرجان هنا أو هناك، لكنها لم تتح لمشاهدتها من قبل الجمهور العادي، وهنا تنتفي العلاقة الضمنية بين المسرح والجمهور. ودائماً ما أقول أنني أشفق على ممثلي المسرح الذين يبدون هامشيين في المجتمعات العربية غير معروفين إلا إذا اشتغلوا في التلفزيون، أشفق على جهدهم وتعبهم وهم لا يقدمون سوى عرض وحيد رغم التدريبات الطويلة والشاقة. عرض وحيد في مهرجان وحيد، ومحظوظون أولئك المسرحيون الذين يقتنصون فرصة المشاركات في أكثر من مهرجان أو نشاط مسرحي.
الاشكالية الثانية التي خلقتها المهرجانات، هي نوعية العروض التي تقدم ضمنها، حيث أن العروض تبدو بعيدة عن هوى الجمهور العادي، فحتى لو حاولت فرقة أو جهة مسرحية أن تقدم عروض المهرجان للجمهور، فلن تحظى بالحضور والاهتمام، لأن هوس التجريب غلب على عروض المهرجانات؛ التجريب بمعناه السطحي، التجريب بمعنى التغريب، التغريب من باب الغرائبية، حيث يبدو النص غريباً بحوارات غير مفهومة، وأداء مسرحي متشنج وإظلامات واستعراض إضاءة وسينوغرافيا، وبالتأكيد هذه الحالة المسرحية لا يمكن أن تكون قريبة من الجمهور الذين اعتادوا على مسرح يستحضر همومهم ومشاكلهم ويقترب منهم ومن هواهم. ومن النادر أن تشاهد عرض مهرجانات يميل للطرافة والكوميديا لأن ثمة اعتقاد أن الكوميديا ليس لها محل في المهرجانات النوعية، لأن الاعتقاد الأكبر أن الكوميديا فن هابط وتشمل حتى تلك المسرحيات الكوميدية النوعية الراقية. فتبدو عروض المهرجانات ذات سمة كئيبة تدور حول قضايا الحروب والمآسي والموت والدمار، رغم أن حتى هذه الموضوعات يمكن أن تقدم بتناول كوميدي بعيد عن الاسفاف وبعيد عن الكآبة التي ستبعد بالتأكيد جمهور المسرح الذي يحتاج للمسرح بالدرجة الأولى للترفيه.
ما نحتاجه دائماً، أن نتوازن، أن نخلق تواصلاً مع الجمهور ولا نساهم كمسرحيين في أن نفقد طرف معادلة الإبداع فلا نجد لاحقاً سوى أصدقائنا ووجوهنا المكررة هي من تتلقى المسرح، ويتجه الجمهور بكامله إلى أشكال تلقي أخرى، توفرها له الهواتف الذكية. نحتاج أن ندرس عميقاً مهرجاناتنا، ماذا قدمت وماذا أخذت، وما نحتاجه أن نخلق مواسمنا المسرحية بعيداً عن غاية المشاركة في المهرجانات، أن يكون الجمهور هو الغاية، أن تكون المتعة والحاجة للفن والمسرح هي الجدوى من الاشتغال المسرحي.
اترك تعليقًا