المشهد 1
شقة انيقة رغم بساطتها، على يمينها بابها الخارجي وفي المنتصف باب غرفة وعلى اليسار شرفة الشقة، وعلى الجدار صور معلقة لشابين وشابة، في العمق ايضا هناك مطبخ صغير، صوت اغنية لام كلثوم (ودارت الأيام) تأتي من الراديو الذي يوجد على طاولة في عمق المسرح، نرى السيدة نجيبة تجلس على كرسي هزاز يهتز بها الكرسي، يسمع صوت اهتزاز الكرسي مندمجا مع الاغنية، فجأة تتوقف نجيبة عن الاهتزاز ،تقف وتنظر جهة الباب، تمشي سريعا تجاه الراديو، تنزل الصوت، وتتجه للباب بسعادة، تفتحه بلهفة، لكن لا احد، تطل الى الخارج لكنها تغلق الباب بإحباط، وتعود للراديو وترفع صوته، ثم تعود لكرسيها وتهتز به ،تتوقف عن الاهتزاز وكأنها سمعت صوتا، تحاول الاسراع نحو الباب دون المرور على الراديو تفتح الباب لكن لا احد، تبدو مستغربة ومحبطة، تعود لكرسيها لكنها لا تجلس، تظل تترقب، تتجه للباب وتضع اذنها على الباب لكنها لا تسمع شيئا، تطفئ الراديو وتضع اذنها على الباب، لكنها لا تسمع احدا، تبدو محبطة.
نجيبة: سمعتها، نعم.. كانت طرقات خفيفة على الباب. تشبه طرقاتهم، تماما، طرقات لطيفة. لقد علمتهم كيف يكونوا لطفاء حتى على الابواب المغلقة. خلت أن الطرقات التي سمعتها كانت طرقاتهم.. لكنها على ما يبدو من موسيقى الاغنية.
تضحك نجيبة
نجيبة: لقد كبرت يا نجيبة وخرفت، تتوهمين ان ثمة طرقات على الباب كما توهمت بأن هناك من نادى باسمي، سمعته ينادي نجيبة، نجيبة.. لكن لم يكن هناك أحد.
تعود لمقعدها وتجلس عليه وتبدأ بالاهتزاز، لكن الاهتزاز يطلق صوتا كالطرق، تتوقف عن الاهتزاز، تصيخ السمع جيدا.. تعود للاهتزاز، وتطلق ضحكة
نجيبة: فعلا اصبحت خرفة يا نجيبة، صار كل صوت هو صوت طرق باب، اليوم صوت الكرسي وامس كان صوت عمود الستارة بفعل الريح، وقبله صوت عمال يعملون في بيت الجيران. صار كل صوت يمر على سمعي طرقات باب .
تواصل الاهتزاز على الكرسي
نجيبة: لا بأس، على الأقل ثمة ما يملآ فراغي الطويل. ويخفف من ثقل الساعات التي تمر بطيئة. امرأة في عمري تبحث عن ما يسلي نهاراتها ولياليها، ثم اني مللت الاغاني وفناجين القهوة التي احتسيها وحدي.
تقف وتتجه ناحية المطبخ، تخرج ركوة من الدولاب وتضع فيها الماء والقهوة وتضعها على النار.
نجيبة: (وهي تعد القهوة) لكن لا بأس بفنجان قهوة آخر، ككل فناجين القهوة التي احتسيها. لا أظن أن طعمه سيكون مختلفا عن طعم الانتظار والوحدة (تغني اغنية لاسمهان وهي تكمل اعداد القهوة) يا من يقولي أهوى.. اسقيه بايدي قهوة.
تنتهي من اعداد القهوة، تصبها في الفنجان، وتحتسي رشفة.
نجيبة: لم اكن اشرب القهوة في الماضي، القهوة تحتاج لمزاج ووقت، وانا لم يكن لدي وقت لنفسي ابدا. لكن منذ عدت وصار الوقت كله ملكي، صرت اسلي النفس بالقهوة.
تأخذ فنجان القهوة الى الشرفة وتجلس على كرسي بلاستيكي، تحتسي رشفة وتسرح
نجيبة: حتى الجلوس في الشرفة لم يكن متاحا لي، كل الغرف التي سكنتها ضيقة، بعضها حتى بلا نوافذ ،افترش الارض تارة، وتارة احظى بسرير انام عليه. وها انا على شرفة بيتي، لكني دون احد، وحدي والقهوة والاغاني.
صوت سيارة اسعاف يمر من الشارع المقابل لشقة نجيبة التي تراقبها وهي تبتعد، تحتسي قهوتها
نجيبة: اصوات السيارات صارت تسليتي ايضا، صرت اعرف انواعها من منبهاتها، فلكل سيارة صوت منبه خاص، صرت افرق بين صوت سيارة الاسعاف وسيارة الاطفاء وسيارة الشرطة .
تبتعد الاصوات في الخارج
نجيبة: صرت أخاف ان يخلو الشارع من السيارات كما باتت حياتي خاوية (تتنهد) رغم ان حياتي كانت مليئة بالناس والحكايات، لكن لكل شيء نهاية، انتهت الحكايات وغابت وجوه الناس .
تنتهي من القهوة، تقلب الفنجان على الصحن وتنتظر قليلا، تعدل فنجانها، تنظر مليا لداخل الفنجان.
نجيبة: ليتني تعلمت قراءة الفناجين كما تعلمت الطبخ والكنس والتنظيف ،كنت قرأت عمري الآتي، قرأت حياة نجيبة غدا وبعد غد، كيف ستكون ايامي، وهل سأبقى وحيدة أم سيعودون شموع هذا البيت المضاءة.
تترك الشرفة وتعود للصالة، تتجه لصور ابنائها المعلقة على الجدار، تأخذ كل صورة على حدة تمسح زجاجها بكمها وتقبلها وتعيدها على الجدار.
نجيبة: (للصور) متى تعودون حتى تعيدوا للبيت ضوءه، متى تعودون لتعود الروح الى جسد أمكم المتعب، لست على ما يرام يا أولادي، لم اعد كما كنت .
تبتعد عن المكان وتستند على الكرسي الهزاز
نجيبة: لم انتظر أن أعود فلا اجدكم، احتاجكم حولي، احتاج ضحكاتكم، قصصكم، مزاحكم. لقد اكتفيت من البعد، اكتفيت من الغربة وعدت، لكني لم أجدكم، لم أجد سوى فراغ البيت ووحشته.
ترتعش فجأة من البرد
نجيبة: البيت صار باردا لا دفء فيه، حياتي باردة، ايامي كئيبة وبلا معنى.
تتجه للباب وتضع اذنها عليه.
نجيبة: (وهي عند الباب) صرت استرق السمع، ربما عادت خطواتكم على عتبة البيت، صرت احسب كل عابر انتم، كل صوت يمر من هنا مروركم، ملني الباب وانا افتحه واغلقه علكم تأتون.
نجيبة تبتعد عن الباب
نجيبة: (بشكل متعب) انهكني الغياب يا اولادي. عشر سنوات من غيابي ونصف سنة من غيابكم، كم بقي لي من العمر لأشعر بكم؟ بوجودكم؟ (تتنهد) يبدو أنكم تنتقمون من غيابي بغيابكم؟.
منهارة تجلس على كرسيها
نجيبة: تعرفون تماما سبب غيابي، ولم طال غيابي عنكم (تبدو مستسلمة)لم يكن بيدي الأمر. لو كان بيدي ما تركتكم لحظة. لست أما بلا قلب لأبعد عنكم. كان ذلك لأجلكم، هو أقنعني بالأمر (تتراجع) لا، لا، لم يقنعني لكنه فرضه علي.
تصمت قليلا وتتنهد
نجيبة: كان يجرحني عتبكم كلما تواصلنا عبر الهاتف، بعد كل اتصال اغرق في الكآبة. ارى الحياة ساعتها رمادية بلا ألوان. أفقد الرغبة في الحياة والعنها، نعم العن الحياة التي جعلتني أسافر عنكم.
تقف وتتجه للصور
نجيبة: (لصورة ابنها الكبير) اتذكر حين قلتَ اني لا احبكم كما يحبكم ابوكم..اوجعتني بكلامك. انا لا احبكم؟، ومن يحبكم مثلي؟، من ضحى لأجلكم، أتظنون أن اباكم ضحى؟ لا، لم يقدم على أي تضحية تذكر، هو من اوهمكم بأنه ضحى لأجلكم، أليس كذلك؟
تصمت قليلا
نجيبة: هو سبب ما أنا فيه، هو سبب غيابي عنكم، هو من تركني غريبة هناك، أعمل وأعمل ويقتلني الشوق الذي يكبر كل يوم، وهو لم يفعل أي شيء لأجلكم. لم يخبركم بالحقيقة، اعرف تماما انه استغل وجودي في الغربة واستهلك عمري لأعمل وأعمل وأعمل (تتنفس بشكل متسارع) ليس من أجلكم، بل من أجله هو. نعم من أجله.
تتجه للمطبخ وتصب لها كأس ماء تشربه وتمسح فمها بكمها بعصبية.
نجيبة: هو من اجبرني على السفر، قال أن حياتنا ستكون أفضل إن أنا سافرت وعملت خارجا (كمن يكلم احدا وهميا أمامها) لكني لا أملك مؤهلا للعمل، لم أكمل المدرسة، ولا أعرف سوى أن أكون ربة بيت (تصمت ويبدو عليها الدهشة) ربة بيت؟، تقصد خادمة؟. لا اسم لها سوى خادمة (للشخص الوهمي) تريدني أن أعمل خادمة؟، وأنت ماذا سيكون دورك؟، لماذا أكون أنا التي أضحي من أجل اطفالنا؟، لماذا لا تسافر انت كالذين سافروا وعملوا، واضمن لك أني سأربي اطفالك وأداري بيتك .
لماذا أنا وليس أنت؟، أنت المسؤول عنهم؟.
تصمت قليلا كأنها تسمع لكلام الشخص الوهمي
نجيبة: (مستسلمة) بالتأكيد أريد لهم حياة كريمة، تعليما وصحة أفضل..لكن هل سفري سيوفر لهم كل هذا؟.
تصمت قليلا وتبدو مستسلمة
نجيبة: حسناً، سأسافر، كما تريد، سأترك كل ما اعتدت عليه هنا وأسافر ليعيشوا بشكل أفضل، سأتركهم لأجلهم (تنتبه لما قالته)أتركهم؟، كيف اترك اطفالي، كيف ابتعد عنهم ولا أراهم؟، كيف أربيهم وأنا في الغربة. كيف؟.
تأخذ حقيبة سفر بيدها وتتجه للباب
نجيبة: قال لي انها مجرد سنتين، فقط سنتين وتعودين. سنتان تكفيان لتعليم اطفالنا. سنتان لا أكثر، لا بأس، لأجلهم سأتحمل السنتين، سأتحمل ثقل الأيام على كاهلي، وعلى صدر الأم التي لن ترى أطفالها لسنتين.
تتحرك بالحقيبة كأنها تغادر المكان، تطالع المكان وعلى وجهها الحزن
نجيبة: سافرت، تركت اطفالي معه، تركت قلبي هنا، وسافرت. بدأت العمل هناك، في غربتي الأولى، كان البيت كبيرا جدا، كبيرا لدرجة أن لا وقت لدي للراحة، عمل وعمل وعمل .
تضع الحقيبة على الأرض وتخرج منها أغراض تنظيف وتبدأ بتنظيف الأرضية.
نجيبة: (وهي تنظف الأرض) أصحو كل يوم من الفجر، قبل ديكة الحي. أجلي الأرض، وألمعها، وأجعلها أنظف من وجهي كما كانت تقول لي سيدة البيت (باحباط وهي تشير للأرض) لقد باتت الأرض أنظف من وجهي. بالتأكيد ستكون أنظف وأكثر بريقا من وجه متعب وشاحب، لا يشبه وجوه أصحاب البيت ولا بريق له كبريقها.
تقف وتتجه للمطبخ وتتظاهر بأنها تعد طعاما
نجيبة: ثم للمطبخ لأعد فطور السيدة، للمرة الأولى لي في بيتها، طلبت مني أطباقا لم أسمع عنها قبلاً، حتى القهوة التي تشربها كل صباح لم أكن أعرفها قبلها، نهرتني لأني لا أعرف، وهددتني بالطرد إن لم أتعلم إعداد ما تشتهيه. من أين لإمرأة بسيطة أن تتعلم إعداد الأومليت والهاش براون والكابتشينو؟ (بفرح) لكني تعلمت كل هذا وأصبحت بارعة أيضاً. لأن أمي كانت تقول أنك فطنة يا نجيبة وبسرعة تتعلمين. نعم، تعلمت بسرعة أن أكون خادمة مطيعة وشاطرة كما كانت تقول السيدة لصديقاتها، وصارت تتباهى بي بينهم.
تصمت قليلا وبحزن
نجيبة: لكن كل هذا ثمنه كان الحزن اليومي، والبكاء اليومي، والوجع اليومي. لا أنام إلا على الدموع. لا أدري عن أطفالي شيئاً، هل أكلوا جيداً، هل ناموا، هل ذاكروا دروسهم.. لا أدري. صار متاحاً لي أن أتواصل معهم تلفونيا كل أسبوعين. لم تكن المكالمة كافية لمسح دموعي، ولا لتهدئة روحي. لم تكن كافية ليلتئم جرحي المغترب.
تتجه لصور أولادها
نجيبة: هل كانت المكالمة لكم كما كانت لي؟، هل هدأت أرواحكم، هل كفكفت دموعكم؟.. (صمت قليلا) مرت الأيام ثقيلة علي، أنتظر السنتين أن تمضيا، كنت أستلم راتبي كل شهر وأرسله لزوجي كاملاً.
استلم الراتب تلو الراتب حتى تنتهي السنتان وأعود. أعود لبيتي وأطفالي.
نجيبة تتجه للهاتف وتنصت كأنها تنتظر اتصالا
نجيبة: وقبل أن تنتهي السنتان بشهرين، اتصل أبوكم ..(ترفع سماعة الهاتف) ألو، أهلا يا زوجي العزيز (بفرح ولهفة) لم يبق سوى شهرين وأعود اليكم، أعود لأطفالي فأنا اشتقت لهم كثيرا. ذبلت روحي وأنا بعيدة عنهم (يبدو عليها الصدمة) ماذا؟، ما الذي تقوله؟. كيف؟. أنت لم تخبرني بالأمر قبل ذلك؟ تغلق الهاتف بإحباط واضح، بعدها تبكي
نجيبة: (تبكي) هل يعني أن أبقى هنا أكثر؟، ما ذنبي إن خسر هو عمله؟، لماذا علي أن أكون كبش فدائه؟ ، لقد تعبت من البعد والغربة، أرغب في العودة إلى بيتي. كيف أبقى أكثر.. كيف؟ وأطفالي؟، أريد أطفالي. سأبقى هنا لا بأس، لكن أعطني أطفالي، سأعمل أكثر وأكثر، لكني أريد أطفالي.. اطفالي وكفى.
تنهار باكية إظلام
المشهد 2
نفس المنظر السابق، صوت أغنية نجاة الصغيرة (لو يطول البعد مهما يطول) ونجيبة على كرسيها الهزاز، تهتز وعلى وجهها يبدو الحزن.
نجيبة: مرت سنة، وأخرى، وأخرى، وكل مرة يحتج بأنه لم يحصل على عمل، وأن الحياة صارت طاحونة تطحنه (بسخرية) يقول أنه هو من طحنته الحياة وليس أنا. خمس سنوات بقيت في الغربة، خمس سنوات دربتني على قسوة البعد، خمس سنوات جفت فيها محاجري. خمس سنوات واعتدت على وطني الجديد، والبيوت التي أتنقل منها إليها، خمس سنوات وأنا أتعلم لغتهم ومنطقهم، تعلمت كيف يلبسون ملابسهم، كيف يضحكون وكيف يبكون، تعلمت كيف يطبخون طعامهم. خمس سنوات كفيلة بأن يعتاد أطفالي بأن أمهم غائبة، وبعيدة. لا تشاركهم فرحهم، ولا تمسح على رؤوسهم إن حزنوا.
تقف من على الكرسي وتتجه للصور، تبتسم لهم
نجيبة: خمس سنوات وكبرتم (تشير على الكبير) أنت صرت رجلأ في التاسعة عشرة، أنهيت مدرستك ،خمس سنوات ومسافات ومسافات تفصلني عنك (تشير للوسطى) وأنتِ صرت في الخامسة عشرة، بلا أم تسمعك، بلا أم تعلمك أبجديات الحياة، بلا أم تصادقينها وتكونا كظلين، آه يا ابنتي التي كبرت ولم تجد ظهر أم يسندها (لصورة الصغير) خمس سنوات وكبرت يا صغيري، دخلت المدرسة ولم تكن الأم قربك تعلمك الألف باء، تردد معك الأناشيد، وتقرأ معك قصص النوم. كبرت ولم تر أمك؟، نسيتني، أعرف ذلك. لكن يا حبيبي، لست أنا السبب. أبوكم هو الذي قال لي سيكبرون وسأبقي صورتك ندية، لن يتراكم غبار السنوات عليها. لن يفتقدوك وإن فصلتكم المدن. لكنه لم يف بالوعد.
نجيبة تبتعد عن الصور قليلا
نجيبة: بعد خمس سنوات، تسنى لي الحصول على اجازة، بعد أن يئست من العودة، وافقت سيدة البيت فكنت كطفل يحصل على لعبته التي تمناها طويلا ،أخيرًا سأسافر ،أخيرًا سأعود لأطفالي وإن كانت عودة مؤقتة، فأنا لا بد ان اكمل مهمتي التي ندبني اليها زوجي، مهمة الحصول على المال الكافي ليتعلم اطفالي .
تتجه للباب
نجيبة: عدت ولم يكن ينتظرني أحد في المطار، قلت ربما هم مشغولون، ربما لم يخبرهم أبوهم أني قادمة، ربما نسوا، الغائب حجته معه، هكذا كانوا يقولون لنبرر غياب الآخرين. وأنا طوال طريقي من المطار الى البيت أبرر وأبرر. لا بأس بسيارة أجرة توصلني للبيت وإن كان الطريق طويلا وأنا وحدي.
نجيبة تقترب اكثر من الباب
نجيبة: وصلت، صعدت السلالم بحقيبتي، وصلت لباب البيت، لم يكونوا في استقبالي كما تخيلت (وهي تطرق الباب) طرقت الباب، مرة وثانية وثالثة، ورابعة. وانتظرت ان يفتح أحد، ولم يفتح أحد.
تجلس على الأرض منهكة
نجيبة: انتظرتهم على عتبة الباب ،أكيد سيأتون. انتظرت وانتظرت ثم غفوت. وفجأة فتح الباب واذا به صغيري، واقفا على الباب (تضحك ولكن بأسى) لقد ظنني متسولة، طردني، ضحكت واحتضنته غصبا عنه، كان قد كبر، لم أغضب منه، لأنه أدرك لاحقا أني أمه، احتضنني وبكى. بكاؤه كان طمأنينتي وقتها، إذاً ما زلت حاضرة عندهم، ما زلت أمه التي يشتاقها.
تتوسط المسرح وهي تنظر للمكان، تطالعه بلهفة
نجيبة: كان وحده بالبيت لم يذهب للمدرسة لأنه كان يخاف من معلمه، فلم يحل واجبه. اخته في المدرسة وأخوه في العمل، عمل؟، كيف؟، والجامعة؟ اخبرني أبوهم أن كل شيء يسير وفق ما اتفقنا، سيتعلم ابننا ويدخل الجامعة، فلماذا يعمل؟. انتظرت حتى جاءوا. لم تكن حكايات صغيري كحكايات الصغار لأمهاتهم، شعرت بأن ثمة شرخ بيننا، لم يستطع تجاوزه. لم أشعر بأنه صغيري، جاءوا ولم يكن الاستقبال كما تصورته، كانت احضانهم باردة، كنت أظن أن بهم شوقا إلي، إلى الأم التي اغتربت لأجلهم، وضحت بخمس سنوات من عمرها لأجلهم. استقبلوني بابتسامات جامدة.
تتوجه للصور
نجيبة: (لصورة ابنها الأكبر) أتظن أني نسيت؟، لم أنس يومها حين سألتني: لماذا عدت؟، بكل برود. ابن يستقبل أمه الغائبة لخمس سنوات بهذا السؤال؟، ثم لم كذبت علي، لم اوهمتني انك أكملت تعليمك الجامعي، لمَ لم تخبرني بأنك تحتاج للمال، وأن المال الذي أرسله لا يكفي (لصورة البنت) وأنتِ، لمَ أشعرتني بأن بيننا الف سد وسد، لم تحضنيني، لم تقبلي رأسي، وكأنك ترين امرأة غريبة أتت من المجهول لتزاحم يومياتكم؟
نجيبة تتنهد وتبتعد عن الصور
نجيبة: نعم، زاحمت يومياتكم، هذا ما رأيته، ما شعرت به، وما سمعته أيضا. نعم سمعت همسكم، وشعرت بضيقكم لطول مكوثي معكم. كنتم تنتظرون مغادرتي ثانية حتى تعودوا للحياة التي اعتدتموها، حيث لا مجاملة لهذا الضيف الثقيل.
تصمت قليلا وتتنهد
نجيبة: كنت أظن أن ما سمعته من زميلاتي الخادمات مجرد مبالغة. كن يقلن أنهن يشعرن بالترحاب لوجودهن في بيوتهم عندما يعودون في الأيام الأولى، وينتهي كل شيء. وأنا انتهى كل شيء أسرع. انتهت تلك اللحظات التي جلسنا سوية وحاولت أن أسمع منكم، أسمع قصصكم، أسمع ماذا فعلتم طوال سنوات غيابي، كيف كانت ايامكم، كيف تبدأ وكيف تنتهي. سئمتم من أمكم الثرثارة، صحيح؟، امكم التي كانت تتكلم كثيرا، تحكي وتحكي، بينما انتم مشغولون عنها .
تصمت قليلا وتجلس على كرسيها
نجيبة: حتى ابوكم، تركني وحدي وغادر الى عالمه، وكأني لست موجودة، لم ينم معي ولو ليلة واحدة ،غريبة كنت في عينيه، لم يحضني، لم يشعرني باشتياقه لي، لم اسمع منه سوى جملة واحدة (تقلد صوت رجل) لا بد أن تعودي، فالمال لا يكفي لتعليم ابنائك. (تعود لشخصيتها) لا يكفي؟، كيف لا يكفي؟، والمال الذي أرسله لكم لخمس سنوات؟، نهاية كل شهر أرسل راتبي لك. فما الذي فعلته لهم؟ ، في ماذا أنفقت المال؟.
تقف غاضبة
نجيبة: ألهذا ترك ابني جامعته؟، وأنت؟ ما الذي تفعله لأجلهم. تعتمد فقط على ما أرسله لكم؟. لماذا تتركه يعمل ويترك تعليمه، لماذا يعمل هو وليس أنت؟..أنت عاطل باختيارك منذ تزوجتك. ما الذي تفعله في هذه الحياة؟.
نجيبة تصمت قليلا، ولكن يبدو عليها الاستسلام
نجيبة: (مستسلمة) سأعود، سأعود مرة أخرى للعمل، المهم أن يكمل دراسته. المهم أن تصرف كل ما أرسله لك من أجل أولادي فأنا ما اغتربت إلا لهم. يبدو أن مهمتي في هذه الدنيا أن اغترب، ولا أرى أولادي يكبرون. سأعود، وأعمل أكثر وأكثر.. ولن أنقطع أبدا عن إرسال رواتبي الشهرية.
تتجه للحقيبة وتحملها باتجاه الباب
نجيبة: سأغادر، سأعود لعملي مرة أخرى. لا بأس، أعرف أنكم ستشتاقون لي وستتحسسون غيابي. لكن غيابي هو لكم، لأجلكم.. سأعود مرة أخرى وأنتم بأفضل حال، ستعيشون حياة أفضل. حياة رفاهية .
قريبا جدا سأعود.
يبدو عليها الإحباط
نجيبة: كنت أظن أنهم سيواجهون سفري بالمنع، سيرفضون، سيغلقون الباب حتى لا أغادر، كنت أظن أنهم سيمسكون يدي ويصرخون “أمي لا تغادري”، كنت أظن أن لوجودي أثر، ولغيابي أثر، حتى الصغير لم يهبني سوى حضن عابر دون دفء. أي أم تعيسة أنا. أي أم تقسو عليها الحياة أكثر. لم يكن في عيونهم دمعة وداع .
نجيبة تقف وسط المسرح غضابة
نجيبة: ما الذي فعلت لتذوي نبتتي في تربة أولادي، أي حكايات كنت ترويها لهم أيها الزوج العزيز، الزوج الوفي. أهذا ما وعدتني به؟. ألهذا تركتني في الغربة؟، أسافر دون وداع، كأني لم أكن يوما أما، أو أحدا يعيش معكم تحت سقف واحد.
تأخذ حقيبتها وتتحرك قليلا
نجيبة: وحيدة في سيارة الأجرة، وحيدة في المطار، وحيدة في الطائرة، وحيدة في هذا العالم. وحيدة بلا زوج، ولا أبناء، وبلا معنى، وحيدة بلا غد.
تتجه للشرفه وتتنفس هواء نقيا، يتسارع تنفسها، شهيق وزفير
نجيبة: لماذا تفعلون بي كل هذا؟، لماذا تغرزون الخنجر في صدري وتبتسمون لوجعي، لماذا؟، أهذه مكافأة غربتي؟ مكافأة وجعي اليومي؟..(تصرخ) لماذا؟ .
نجيبة تبتعد عن الشرفة وتتجه للصور
نجيبة: لماذا يا أولادي، يا قطعة من روحي، يا فرحتي الأولى، يا امتدادي ومنتهاي، لماذا؟، لماذا قطعتم حبلي السري فصرت غريبة عنكم. أنا أمكم التي أنجبتكم، غذتكم من جسدها، فكيف أغادر عنكم ولم يحزن علي منكم أحد؟.
تبتعد عن الصور
نجيبة: عدت ثانية لأعمل وأجمع لكم المال، عدت صامتة، فقد غادر الكلام ولم يعد لأي كلام معنى، ظللت صامتة، لا أتكلم إلا للحاجة. كنت أعمل جاهدة من أجلكم، لكن الصمت كان عنواني. سئمت السيدة من صمتي ونقلتني لبيت آخر. لم يكن البيت كبيرا كبيت السيدة، كان أصغر، واختاروا لي مكانا للنوم تحت السلم، بلا نوافذ، صرت أنام على الأرض، وبقيت صامتة، الصمت كان علاج ألمي، الصمت كان علاج روحي المنهكة.
تصمت قليلا وتتنهد
: الصمت رفيق أيامي، رغم ما في داخلي من كلام، كلام لا حد له. خمس سنوات من الصمت، خمس سنوات أخرى من الموت البطيء، من العزلة والوحدة، من صدمة تلو صدمة.
للصور
نجيبة: (باكية) نعم صدمة، حين أعرف أن اولادي يتواطؤون ضدي، يشاركون أباهم في قتلي، وتشريح جثتي، بمالي، بتعبي، بغربتي. كل السنوات التي قضيتها غريبة وحيدة، كانت من أجل امرأة أخرى، وانتم تعرفون. بل متواطؤن معه (تجهش بالبكاء) كنت أعمل من أجلكم لا من أجله، من أجل رفاهيتكم لا من أجل امرأة أخرى دخلت عالمك وصارت لكم أما بدلي. سنوات من الخديعة، لم يرأف بي وبغربتي، لم يرأف بقلبي الذي تعب من كل شيء.
تجلس على الأرض باكية
نجيبة: لم أجد يدا على كتفي، ولا على رأسي، ولا يدا تمسح دمع عيني، لم أجد سوى وحدتي وشقائي ،وشريط عمري الذي مر سريعا، لأدرك كم كنت مغفلة. كيف وثقت في رجل بلا مبادئ، أرسلني للغربة لأهيئ زواجه.
تنظر نجيبة لصور أولادها
نجيبة: ما آلمني أكثر كيف غسل أدمغة اولادي ونظفها من صورة الأم كما أنظف بيوت الناس (تصرخ) هل لأني خادمة؟، نعم خادمة. ولا يضيرني أن أصرخ أكثر ويعلم كل الناس بأني خادمة. الخادمة التي جعلتكم اثرياء، صارت وصمة عار تخبؤن رؤوسكم في التراب عنها؟، الخادمة التي انتزعت من عمرها عشر سنوات لأجلكم، صارت تخجلكم؟ (تصرخ) أنا خادمة، وسأكتبها على جبيني ليعرف كل الناس حكاية الخادمة، وحكايتكم كلكم، أنتم وأبوكم.
تتجه للشرفة وتصرخ عاليا
نجيبة: (تصرخ) أنا خادمة، أسمعتم؟، أنا خادمة، عشر سنوات تغربت وعملت خادمة، من بيت لبيت. خادمة من أجل من هجروني، من أجل أولادي الذين غادروا البيت الى بيت آخر وأم أخرى. لتسمعوا كلكم حكاية نجيبة. سأخبر كل الناس بأن لي أولاد غادرت قلوبهم ولم يعد لي مكان فيها .
نجيبة تعود للصالة وتتجه للصور
نجيبة: أعرف أنكم لا تريدون أما خادمة، أدرك أنكم لن تأتوا، لن تطرقوا بابي ولن تمر خطواتكم على أعتابي. لكن صدقوني قلب الأم لا يقسو، سأظل انتظركم، وانتظر حضنا اشتاقه منذ سنوات الغربة. السنوات العشر كفيلة بأن تعينني على الوحدة، على الانتظارات الطويلة.
تتجه للباب
نجيبة: سأظل أنتظر اللحظة التي تدخلون البيت ثانية بقبلات الشوق، أنا على يقين أنكم ستعرفون القصة كاملة وتدركون من البطل فيها، ومن صاحب الخديعة. ستدركون أن أباكم استدرجني لحتفي، ليرقص على جثتي رقصة عرسه، وأنتم كنتم تصفقون في حفلة موتي. وأكيد ليس بإرادتكم.
تتجه للكرسي وتجلس وتبدأ بالاهتزاز بالكرسي الذي يصدر صوتا من احتكاكه في الأرض
نجيبة: سأنتظركم هنا، ككل يوم، وستعودون، أنا على يقين أنكم ستعودون لحضني، ستعودون، ستعودون تواصل الاهتزاز بالكرسي الذي ما زال يصدر صوتا وهي تردد
نجيبة: ستعودون لحضني، ستعودون، ستعودون، ستعودون
بالتدريج يتلاشى صوتها ويرتفع صوت الكرسي ويكون هو الطاغي وهي مستمرة في الاهتزاز.
اظلام تدريجي النهاية
١٦ أغسطس ٢٠٢١
اترك تعليقًا