مسرحية عامل توصيل

مسرحية من فصل واحد

الشخصيات:

رضوان: روائي في السبعينيات من عمره، أتعبه العمر وصار يمشي على عكاز مع إنحناءه بسيطة في عينه، يرتدي نظارة سميكة عادة، بسبب عمره أيضا صار ملازما للبيت ولا يخرج منه.

آمال: زوجة رضوان، ستينية، اكثر قوة منه، جميلة، تحب رضوان وتبقى معه دائما في البيت، لا تغادره إلا معه. تختلف معه أحيانا، لكنه اختلاف بحب

نبيل: شاب في نهاية العشرينيات، يعمل في وظيفة توصيل الطلبات. تخرج من معهد في تخصص لم يجد عملا يناسبه. يعمل في توصيل الطلبات ويحب هده المهنة جدا.

عامل التوصيل: عشريني

المكان عبارة عن شقة صغيرة، في اليمين مكتبة تصطف فيها الكتب، وعلى اليسار طاولة طعام عليها بعض علب البيتزا، في المنتصف وفي مواجهة الجمهور كنبة طويلة. وفي أقصى اليمين باب الشقة المفضي للخارج.  على الجدران صور ولوحات، صور لأبناء رضوان الثلاثة وهم في عمر الشباب، يفتح المشهد على رضوان السبعيني وهو يرتدي ملابس البيت. بيجامة وفوقها روب وعلى رأسه قبعة صوفية، ويرتدي حذاء منزليا، يجلس مواجها الجمهور وهو يسند رأسه على عكازه. وبجانبه كتاب على الكنبة. تدخل عليه زوجته آمال وعليها يبدو القلق، تقترب منه

آمال:            أتظن أنه سيقبل؟

رضوان:        ربما، أو سيكون كغيره. يتركون الطلبات ويهربون

آمال:            لماذا تسميه هربا؟.

تجلس بجانبه

رضوان:        وهل له إسم آخر؟

آمال:            لكل ظروفه، لا نستطيع أن نجبر أحدا على فعل ما لا يرغب

رضوان:        (يتنهد) نحن لم نجبر أبناءنا على البقاء بجانبنا، فكيف نجبر الغرباء

آمال:            ابناؤنا أيضا لهم ظروفهم، لا بد أن نتفهمها

رضوان:        لكننا الآن بحاجة لوجودهم معنا.

آمال:            لسنا بحاجة لأحد. ما دمنا نمتلك بعض القوة.  نمتلك روحا وجسدا قادرا على الحركة.

رضوان ينظر لآمال ويبتسم

رضوان:        دائما ما تهونين كل أمر. لذلك تبدين أصغر مني وأقوى. حتى الشيب لم يغزُ رأسك.

تضحك آمال

آمال:            ما أجمل من أن نعيش بخفة، أهون كل شئ حتى أعيش بلا أحمال تجثم على صدري.

رضوان:        ليتني مثلك، سنوات العشرة ما بيننا لم تعلمني الحياة بخفة.

آمال:            لأن لك شخصيتك، ولي شخصيتي

يصمتان، ثم تبادر آمال

آمال:            هل ترغب في كوب شاي

رضوان:        لا، ليس الآن..

آمال:            ألا تحب الشاي اليوم

رضوان:        ربما أشربه معه

آمال وهي تراقب قلق وترقب رضوان

آمال:            لمَ تظل مترقبا قدومه؟. عالج قلقك بالقراءة. حتى يمر الوقت سريعا

رضوان:        كم مضى من الوقت؟

آمال:            أقل من نصف ساعة

رضوان:        كأنها ساعات

آمال:            الانتظار يجعل الوقت طويلا، أحيانا يكون بلا حد

رضوان يقف متكئا على عكازه، تقف معه آمال معه، يتجه للباب وهي وراءه، يفتح الباب يطل للخارج، ثم يغلقه، يتجه للمكتبة، يأخذ كتابا ويفتحه وآمال تراقبه

آمال:            أستغرب أن الكتابة لم تدربك على الصبر.

رضوان:        (يبتسم) أنا صبور في الكتابة والقراءة، لكني لست صبورا في غيرهما. أمل بسرعة، اسأم بسرعة، أنفجر بسرعة

آمال:            كفانا الله انفجاراتك. سأعد لك شرابا دافئا

رضوان:        ليس الآن، حينما يأتي

آمال:            ربما يغادر مثل غيره

رضوان:        وربما يبقى.

آمال:            إنه خامسهم، كل يوم نفعل ذات الأمر، ويغادرون بعد ترك الطلبات

رضوان:        سأحاول إقناعه.

آمال:            أنا ما عدت راغبة في ذلك.

رضوان:        هل صرت مثلي تسأمين؟

آمال:            لأن لا طائل فيما تفعل. نحن لسنا بحاجة.

رضوان:        أنا بحاجة.

آمال:            وكتبك وروايتك؟

رضوان:        لا تكفي، صدقيني لا تكفي. كل البشر الذين اقرأهم وأكتبهم، ليسوا حقيقيين، مجرد كلمات مطبوعة على ورق. شخصيات من ورق لا أكثر. أحتاج لبشر حقيقيين. بشر يتكلمون ويتحركون. يضحكون، يبكون.

آمال:            لكنني موجودة، ألست حقيقية؟

رضوان:        حقيقية يا آمال، حقيقة. لكنني أحتاج لأشخاص آخرين، وحكايات جديدة، قصص لم اسمعها قبلا. حكاياتنا نضبت.

يسمع صوت الجرس، ينتبه بفرح فتفرح معه آمال

رضوان:        (بفرح بالغ) هيا، اعدي القهوة الآن..

آمال:            لا بد أن نتأكد من أنه ليس كالآخرين. يمكنني إعداد القهوة لاحقا. ثم لم غيرت رأيك، طلبت مني أن أعد الشاي

رضوان:        والآن طلبت القهوة. ما المشكلة

آمال:            لا شئ، سأفتح الباب

رضوان:        لا، أنا من سأفتحه هذه المرة.

يتجه رضوان للباب وصوت الجرس يتواصل، يعدل من هيئته، يعدل قبعته، يبتسم لآمال، فتشير له بأن يفتح الباب بسرعة، يفتح رضوان الباب سعيدا فيظهر على الباب بائع توصيل البيتزا (نبيل) يرتدي ملابس التوصيل الخاصة وقبعة وفي يده علبة بيتزا كبيرة. يبتسم

نبيل:            شقة السيد رضوان؟

رضوان:        (مبتسما) نعم هي بذاتها، وأنا السيد رضوان، وتلك (يشير لآمال) زوجتي العزيزة آمال. وأنت ما اسمك.

نبيل:            نبيل.. عامل التوصيل من مطعم البيتزا.. أنتم طلبتم بيتزا كبيرة بالخضار وزيادة جبن، وبدون شرائح بصل

رضوان:        صحيح، هو كذلك

يمد نبيل علبة البيتزا لرضوان

نبيل:            تفضل يا سيدي، ثمنها 45 ريالا.

رضوان:        (وهو يشير للداخل) أعرف، أعرف، ضعها بالداخل

نبيل:            (باستغراب) بالداخل؟، لا يمكنني الدخول سيدي. خذ البيتزا خاصتك، وسلمني المال حتى أعود لعملي.

رضوان:        لم لا يمكنك الدخول؟، ادخل أرجوك

يسحب رضوان نبيل إلى الداخل والاستغراب واضح على وجه نبيل

نبيل:            (يشير للطاولة) هنا؟

رضوان:        (وهو يغلق الباب) نعم هنا.

آمال:            ضعها مع بقية العلب.

نبيل يضع العلبة على الطاولة وينتبه لوجود الكثير من العلب من مطاعم عدة

نبيل:            (وهو يشير للعلب ممازحا) يبدو أن هناك وليمة بيتزا.

آمال:            كما ترى من كل مطعم بيتزا.

نبيل:            تحبون البيتزا على ما يبدو؟

آمال ورضوان: (بصوت واحد) لا

نبيل يبدو عليه الاستغراب

نبيل:            ولم كل هذه العلب إذا كنتم لا تحبون البيتزا (يستدرك) فهمت، أنتم على ما يبدو من متذوقي الطعام الذين نراهم في وسائل التواصل يجربون الطعام. فهمت الآن.

آمال ورضوان: (بصوت واحد) لا

نبيل يبدو عليه الاستغراب

نبيل:            لا بأس، هل يمكن أن أتسلم المال وأغادر؟

رضوان:        (وهو يقترب منه) ولم كل هذا الاستعجال؟. استرح

نبيل:            لكنني..

آمال:            (تقاطعه) استرح يا رجل، العجلة لن تغير شيئا في هذا العالم. هو نفسه.

نبيل:            أنا مشغول

رضوان:        (يقاطعه) الانشغال إدعاء، لست مشغولا، ولكنك تظن نفسك مشغولا. استرح، ما بك؟

يمسكه من يده ويجلسه على الكنبة مواجها للجمهور بينما نبيل يبدو مستغربا من تصرف رضوان وآمال

رضوان:        أنا رضوان..

نبيل:            (يقاطعه وهو يشير لآمال) وتلك زوجتك السيدة آمال..

يبتسم رضوان وهو يربت على كتف نبيل وتبتسم آمال هي الأخرى

رضوان:        راق لي ذكاؤك.

يبتسم نبيل سعيدا

نبيل:            أتعرف، للمرة الأولى التي أسمعها من أحد، حتى لو كانت مزحة. لم يمدح أحد ذكائي. حتى أمي وأبي.

رضوان:        (متأسفا) أووه، مسكين، هما لم يعرفاك جيدا

نبيل:            لكنهما أمي وأبي

رضوان:        ولو. نحن غريبان عنك، ولكننا لمحنا ذلك الذكاء المتقد من عينيك

نبيل:            (وهو يمسح عينيه) صحيح؟، أهو متقد؟.

آمال:            (وهي تبتسم لنبيل) جدا، متقد جدا (تهم بالمغادرة) لحظة، سأحضر لك المرآة.

رضوان يبتسم لنبيل فيبادله نبيل الابتسامة الحائرة، تأتي آمال بمرآة يدوية صغيرة، تعطيها لنبيل الذي ينظر لوجهه

رضوان:        أنظر، متقد..

نبيل:            (وهو ينظر للمرآة ويغمض عينيه ويفتحهما) متقد، فعلا.. متقد، لم أكن أتصور ذلك

يبتسم رضوان لآمال فتبادله الابتسامة

نبيل:            لكن، اسمح لي يا سيد رضوان، ما الذي تعنيه متقد؟

رضوان:        (يضحك) ألا تعرف معناها؟

يهز نبيل رأسه اسفا

نبيل:            بصراحة أني لم أكن مجتهدا في قواعد اللغة العربية.

رضوان:        لا بأس، إذا أردت سأعلمك القواعد، ستكون سهلة عليك جدا.

نبيل:            لا، فقط متقد.. لا أريد القواعد ولا الدروس

رضوان:        (وهو يعدل جلسته) حين نقول ضوء متقد، يعني أنه ضوء متلألئ، وحين نقول نار متقدة، يعني أنها مشتعلة.

نبيل:            (بفرح) يعني أن الذكاء متلألئ ومشتعل من عيني.

يصفق رضوان وآمال فرحا

رضوان:        ألم اقل لك أنك ذكي. يا رجل هم لا يعرفونك.

نبيل فرح جدا، ثم بعد لحظات

نبيل:            طيب، اريد المال حتى أغادر

آمال:            ولم تغادر. سأعد لك القهوة.

يقف نبيل محرجا ويقف معه رضوان

نبيل:            شكرا يا سيدتي. أنا لا بد أن أغادر

آمال:            والقهوة؟

رضوان:        أنت لم تجرب قهوة آمال. إنها تعد القهوة أفضل من كل المقاهي في المدينة.

آمال:            جرب القهوة، ثم غادر إذا اردت.

يبدو نبيل محرجا، يهز رأسه موافقا، بفرح يحرك رضوان يده لآمال دلالة الانتصار، فترد عليه آمال بابتسامة.

رضوان:        استرح الآن، سأذهب لدقائق مع آمال وأعود إليك. استرح، ولا تقلق. ثم أنك لست غريبا

ينظر نبيل باستغراب

آمال:            هو يقصد أن لا تحسب نفسك غريبا. البيت بيتك (لرضوان) هيا يا رضوان

يغادر رضوان ومعه آمال وهما يطلان بنظرات فرح لنبيل، الذي يبدو مرتبكا وحائرا، يظل وحده في المكان، يطالعه، ينظر للمكتبة، ثم لطاولة الطعام، ثم للجدران التي تتوزع عليها الصور والرسومات، يتنهد

نبيل:            يا لها من ورطة. ما الذي أتى بي إلى هنا. عادة ما أسلم البيتزا وأستلم المال واغادر لبيت آخر. ثم أني كيف قبلت بالقهوة وأنا لا أشربها.

يقف ويتجه للمكتبة، يأخذ كتابا من المكتبة ويتصفحه، ثم يضعه ويأخذ آخر، يفتحه ويمرر صفحاته بسرعة بين أصابعه، يغلقه، فيقرأ الغلاف ثم يضعه مكانه، وقبل أن تمتد يده لكتاب آخر يدخل عليه رضوان سعيدا..

رضوان:        هل أعجبتك المكتبة؟

نبيل ينتبه ويدير وجهه لرضوان مفزوعا

نبيل:            (بارتباك) نعم.. نعم، جميلة، مليئة بالكتب، وشكلها مرتب

رضوان:        أي نوع من الكتب تحب أن تقرأ؟

نبيل:            (بارتباك شديد) أنا.. أحب

رضوان:        لا تقرأ؟

نبيل:            (بتهرب) أقرأ، لم أقل أني لا اقرأ. لكن، ليس كثيرا. يعني أقرأ القصص، نعم القصص.

رضوان يتجه للمكتبة ويأخذ كتابا من المكتبة، ويعطيه لنبيل، يأخذه نبيل مستغربا

رضوان:        هذا الكتاب رواية. متأكد أنك ستستمع بقراءتها

نبيل يهز رأسه ويقرأ الغلاف

نبيل:            (باستغراب) الكاتب اسمه رضوان ايضاً. أتعرفه؟

رضوان:        (يضحك) نعم أعرفه، أعرفه جدا. هو دائما معي في كل أوقاتي. هو معي الآن

ينظر نبيل حوله وكأنه يبحث عن أحد

نبيل:            لا أحد هنا غيرنا. حتى السيدة آمال لم تنته من تحضير القهوة. كيف يكون رضوان معك الآن؟

رضوان:        (يشير لنفسه) أنا رضوان، رضوان خليل.

ينظر نبيل للكتاب ثم ينظر لرضوان

نبيل:            انت الكاتب. رضوان خليل. أعتذر يا سيدي لأني لم أدرك أنك انت نفسه رضوان خليل

رضوان:        لا بأس

تدخل آمال بصينية عليها فنجان قهوة واحد فقط، تقترب من طاول الطعام وتضع الصينية عليها

آمال:            تفضل يا نبيل، القهوة جهزت

ينظر نبيل لرضوان، يبتسم له رضوان وهو يهز رأسه إيجابا، يقترب رضوان من الطاولة ويجلس على الكرسي، ينظر لفنجان القهوة الوحيد

نبيل:            لي وحدي؟

آمال:            نعم، لك وحدك

نبيل:            وأنتما

رضوان:        أنا لا أشرب القهوة.

آمال:            وأنا مثله، القهوة متعبة لجهازنا الهضمي. كبرنا ولم يعد يتحمل كمية الكافيين في القهوة.

نبيل:            لا يصح أن أشرب وحدي.

رضوان:        قلت لك، خذ راحتك، اشرب وأنا احكي لك عن الرواية التي بين يديك

نبيل يرفع الكتاب وينظر له ويبدو أنه يشعر بورطة

نبيل:            بصراحة يا سيد رضوان، أنا لا اقرا الكتب. أدعيت أنني أقرأ، لكن آخر ما قرأت كان كتب المعهد الذي درست فيه. لا علاقة لي بالكتب

رضوان:        جرب ان تقرأ الرواية، ستحبها، وتحب الكتب، وتجد نفسك تقرأ بلهفة.

نبيل ينظر لآمال فتبادره

آمال:            جرب القهوة، ستعجبك

بتردد يرفع نبيل الفنجان ويحتسي منه رشفات سريعة

آمال:            ما هكذا تشرب القهوة.

رضوان:        يقول محمود درويش: “القهوة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات”

يشرب نبيل القهوة على مهل ويبتسم ابتسامة ورطة لرضوان وآمال اللذين يبادلاه الابتسامة

آمال:            كيف هي القهوة؟

نبيل:            بصراحة لم أذق مثلها قبلا، مصنوعة بحب

يضحكان وهو ينظر لهما مستغربا

رضوان:        أنت ذكي يا نبيل. أعجبتني إجابتك. مصنوعة بحب

يعاود شرب القهوة بمهل

نبيل:            سيد رضوان، من هو محمود درويش الذي قال ما قلت لي عن القهوة؟

آمال:            (باستغراب) ألا تعرفه، محمود درويش

نبيل:            لا، لم أسمع به أبدا. اعذروا جهلي بأصدقائكم فأنا أول مرة آتي هنا، أنا للتو عملت في المطعم. أوصلت الطلبات للكثير من ابناء حيكم، أما انتم فهي المرة الأولى.

رضوان:        قلت لك، ستحب القراءة وستعرف من يكون محمود درويش. وستعرف دوستويفسكي وتشيخوف، ستعرف يوسف إدريس وحنا مينة وغيرهم

نبيل:            أصدقاؤك؟، يزورونك هنا؟

يقف رضوان وهو يضحك وآمال ايضا تضحك معه

نبيل:            سأزوركم حينما يأتون، المهم أن تعطوني المال لأغادر

يتجه رضوان للمكتبة ويستخرج ثلاثة كتب منها ويقترب من نبيل، ويقدمهم له

رضوان:        هذه ثلاثة كتب، أولها لدوستويفسكي، رواية قصيرة اسمها الرجل الصرصار

ينظر نبيل مندهشا لرضوان ثم لغلاف الكتاب

رضوان:        والكتاب الآخر لتشيخوف، مجموعة من القصص أنصحك أن تقرأ موت موظف، قصة ستعجبك جدا، ستنسى نفسك وأنت تقرأها.  أما الكتاب الثالث فاخترته لك عربيا، ليوسف إدريس مجموعة من قصصه القصيرة

آمال:            كيف هي القهوة؟

نبيل:            لذيذة. جدا لذيذة..

يهم بالوقوف

نبيل:            فقط 45 ريالا ثمن البيتزا، فقط.. لا أريد غيرها

رضوان:        والكتب؟

نبيل:            (بخوف) سأقرأها، أعدك أني سأقرأها، وحين أنتهي من الكتب سأعيدها لك. فقط، سلمني ثمن البيتزا التي لن تؤكل.

آمال:            أسئمت منا؟

نبيل:            لا يا سيدتي، ولكني ملزم بتوصيل الكثير من الطلبات للمطعم

رضوان:        هناك غيرك من عمال التوصيل.

نبيل:            سيخصم من راتبي، سيغضب صاحب المطعم. سيطالبني بثمن البيتزا أيضا.

آمال:            أجلس وسنحكي لك، عن غيرك من عمال التوصيل، نعرف كل عمال التوصيل في مطاعم المدينة.

نبيل:            لا أريد حكايات، فقط ثمن البيتزا.

آمال تقترب منه وتربت على كتفه

آمال:            يعجبني حرصك الشديد على عملك، أنت تختلف عن كثير من عمال التوصيل. هم ليسوا بمثل حرصك

نبيل:            أنا منذ تخرجت من المعهد منذ أكثر من سنتين، لم أجد عملا يناسب تخصصي، بحثت طويلا، تعبت من البحث، حتى وجدت هذا المطعم الذي قبل أن يوظفني، ولا اريد خسارة الوظيفة

آمال:            ومن قال أنك ستخسرها، رضوان يعرف صاحب المطعم ويعرف أباه أيضا. لا تعتقد أنه سيضرك حين تخبره أنك كنت معنا.

يبدو نبيل محتارا وكأن لا حيلة له

رضوان:        أجلس.

يجلس نبيل محتارا ثم يشير لعلب البيتزا

نبيل:            هل لي أن أعرف، لم طلبات البيتزا هذه وأنتما لا تحبان البيتزا ولا تأكلانها. لماذا تظل البيتزا على الطاولة حتى تبرد؟. وإذا بردت تصبح بلا طعم. البيتزا تؤكل ساخنة. كالقهوة التي تحتسى على مهل.

آمال:            سنخبرك بكل شئ.

رضوان:        أنا متقاعد من عملي منذ خمسة عشر سنة. ومنذ ذلك الوقت تفرغت تماما للكتابة والقراءة.

نبيل:            وما شأن الأمر بالبيتزا؟

رضوان:        (يتنهد ويكمل) تعب جسدي، رجلاي ما عادتا قادرتين على حمل هذا الجسد، فصرت أمشي متكئا على عكازي.

نبيل:            والبيتزا؟

رضوان:        مجرد حجة.

ينظر نبيل باستغراب لرضوان

آمال:            نعم هي حجة.

رضوان:        نحن وحيدان منذ سنوات. ليس لي أصدقاء أزورهم، أو يزورونني. لأن أصدقائي القريبون رحلوا. نظل وحيدين في هذه الشقة الصغيرة، دون زائر. دون أن يطرق أحد بابنا.

نبيل:            لكنك كاتب، ولك كتب مطبوعة، وبالتأكيد كاتب مشهور قد لا اعرفك أنا، لكن أكيد أن هناك من يعرفك ويقرأ لك.

رضوان:        من يقرأ كتب رجل عجوز مثلي؟. ثم أن الشهرة ليست لنا ككتاب. لا أحد يعرفنا إلا المهتم، وربما يعرفنا او لا يعرفنا. حتى أنت، أنت يا نبيل، لا تعرف رضوان خليل، أنت لا تعرف محمود درويش ولا دوستويفسكي ولا تشيخوف ولا أحد، كيف ستعرفني؟

نبيل:            وما علاقة كل هؤلاء بالبيتزا المتراكمة على طاولتكما؟. لم أفهم.

رضوان:        (يتنهد) يا بني. وحدتنا ووحشتنا وعزلتنا، هي ما دعتنا لطلب البيتزا، كل يوم نطلب طعاما لا نأكله، نبحث عن وجوه جديدة نراها، عن حكايات لم نسمعها، عن أٌنس فقدناه منذ سنوات.

نبيل:            والبيتزا هي من ستجعلكم تسمعون الحكايات الجديدة وترون وجوهاً جديدة؟

آمال:            لولا البيتزا لما رأيناك، لما سمعنا حكايتك وانت تبحث عن عمل بعد المعهد. ونعرف تماما أن عندك ما يحكى.

نبيل:            غريبان أنتما. كان يمكن لك يا سيد رضوان أن تجلس في المقهى، وهناك الكثير من الحكايات. كثير من الوجوه التي تمر.

رضوان:        لم يعد هناك مقاه تناسب رجل في عمري. ثم أني لا أحب أن أترك آمال وحدها بالبيت.

نبيل:            إذهبا للحديقة، للأسواق، للمطاعم.. الحكايات في كل مكان. الناس الذين تبحثون عنهم في الشارع، وليسوا هنا.

آمال:            ما المشكلة أن نأتي بهم هنا. مثل ما أتيت أنت؟.

نبيل:            ببيتزا مصيرها سلة المهملات؟.

آمال:            لا، أنا أضعها في الفريزر. ومتى ما رغبنا نسخنها.

نبيل:            (باستغراب) لكنكما لا تأكلان البيتزا

رضوان:        ربما اشتهينا بيتزا، من أين نأتي بها وقتها؟. كل ما نفعله أن نخرجها من الفريزر نسخنها، ثم نأكلها.. ببساطة.

نبيل:            أنا لا افهمكما، مرة لا تحبانها، ومرة تحبانها. ما الذي تريدانه؟

آمال:            الناس، الأنس المفقود. هذا ما يجعلنا نحب ونكره، نكره ونحب، كل يوم نتغير ونغير. غدا سنحب القهوة، سنشربها، نحتسيها. وبعد غد قد نكرهها، ونكره رائحتها. افهمنا أرجوك

نبيل:            لا أستطيع. ما تفعلانه غريب. ثم أين أبناؤكما، أرى صورا معلقة لأشخاص. أم أنهم من جماعة توفسكي وشخشوف؟

رضوان:        هؤلاء ابناؤنا فعلا.

آمال:            (وهي تشير للصور) أبناؤنا الثلاثة.

نبيل:            وأين هم؟، هم من يفترض أن يبقوا معكما، يحكون لكم الحكايات، يؤنسونكما، يبعدان الوحشة عنكما.

آمال:            كبروا، وغادروا، تركونا وحدنا هنا.

رضوان:        سافروا، أنا لا ألومهم، لهم ظروفهم. ولكل ظروفه.

صمت للحظات، ينظرون لبعضهم البعض

رضوان:        (يتنهد) أنثقل عليك يا نبيل؟

نبيل ينظر بحيرة لرضوان

نبيل:            أنا عاجز حتى عن الإجابة. أتعاطف معكما، أتضامن مع وحشتكما، رغبتكما في الحكايات الجديدة. لكني عاجز عن أن أفعل لكما شيئا. أنا عامل توصيل عابر. عامل بسيط كل ما يفعله هو توصيل الطلبات للبيوت. اطرق الأبواب، أسلم الطلب، وأغادر.

رضوان:        نفهم ذلك، لذلك طلبنا البيتزا، نراكمها، علنا نتمكن من إقناع عامل توصيل أن يجلس دقائق معنا، دقائق بسيطة تكفينا، لسنا طماعين. دقائق نتبادل الأحاديث عن اي شئ، نصرف وحشتنا بأحاديث عابرة. لكن كلهم يرفضون، يهربون منا، يتحججون بالعمل.

نبيل:            وأنا ايضا. لدي عمل.

آمال:            لكنك لم تهرب.

نبيل:            لو دفعتم لي ثمن الطلب، لغادرت مثلهم.

آمال:            لو غادرت، ستظل الأسئلة في رأسك، ستأكل نفسك بحثا عن إجابات. أنا متأكدة أنك استأنست الفكرة. وتساءلت عن هذين المخبولين.

نبيل:            (بارتباك) أنا..

رضوان:        نعلم ذلك، ومن حقك أن تتساءل، تشك، تخاف، تقلق. ما لهذين العجوزين يسوفان لكي لا يدفعان ثمن البيتزا.

آمال:            وما لهذين العجوزين اللذين يمدحان القهوة وهما لا يحبانها. يراكمان علب البيتزا ولا يأكلانها.

نبيل:            (يتنهد) صدقتما، اسئلة كثيرة، أكثر مما ذكرتما. شعرت بورطة، قلقت، شككت، من يكونان، ما بالهما..؟

رضوان:        أنت شككت وبقيت، هناك من عمال التوصيل من شك وهرب، من قلق وتركنا، من خاف وغادر. كانت تداخلك رغبة في أن تعرف قصتنا. ولم نحن هنا.

نبيل:            فعلا. لم أكن راغبا في الهروب ولا المغادرة قبل أن أكتشف ما حكايتكما.

رضوان:        وها أنت عرفتها.

نبيل:            أظن أني عرفت جزءً من الحكاية، وليس كلها.

رضوان:        يمكنني أن أطلب بيتزا غدا أيضا، لتسمع بقية حكايتنا.

آمال:            يمكنك أن تغادر الآن.. أدخلناك عالمنا. نعتذر لك.

تغادر آمال ثم لحظات وتعود وبيدها ورقة نقدية 500 ريال، تقدمها لنبيل

آمال:            شكرا لك، لا بأس ببعض الدقائق التي تحدثنا فيها مع بعضنا البعض. دقائق تستحق عليها الشكر.

نبيل:            أنا لم أفعل ما يستحق الشكر (يقرب الورقة النقدية) لكن ليس عندي فكة.

آمال:            هذه ثمن البيتزا، والباقي لك. تستحق أكثر

نبيل:            لا يا سيدتي، المبلغ كبير. لا أستحقه.

رضوان:        تستحق لأنك منحتنا بعضا من وقتك. سمعتنا، سمعناك، تحدثنا، وحكينا.

نبيل:            (مستسلما يمد الكتب) شكرا، هذه كتبكما

رضوان:        قلت لك، هي لك. جرب أن تقرأها. ستجد فيها عالما قد تحبه، ربما تجد فيها رضوان وآمال. وحكايات مثل حكايتنا. ربما تجد فيها نبيل أيضا.

نبيل:            (وهو ينظر للكتب) أتظن ذلك؟

رضوان:        أكيد، في الكتب شخصيات كثيرة. عايشتها لسنوات، ولكني صرت أبحث عن حقيقيين أسمع أصواتهم. كنت مكتف بشخصيات الروايات، بحكاياتهم. جرب أن تقرأ.

يهز نبيل رأسه  

نبيل:            سأحاول، يبدو أن ثمن البيتزا أكبر من مجرد مبلغ من المال، ثمنها حكاية وجدت نفسي جزءً منها عنوة. حكاية تبدو لطيفة بكل ما فيها.

آمال:            انتبه لنفسك، أنت فعلا ذكي.

نبيل:            (ممازحا) والذكاء يتقد من عيني

رضوان:        (وهو يضحك) صحيح. غدا سنطلب بيتزا جديدة.

نبيل:            وسأحرص أن أكون أنا وحدي من يوصلها.

يبتسمان له، يهم بالمغادرة وهو يلوح لهما، يسمع صوت جرس الباب. يتوقف مستغربا

نبيل:            من يكون؟، قلتما أن لا أحد يزوركما.

آمال:            نقول الحقيقة. لا يزورنا أحد

نبيل:            إذا من وراء الباب..

بغضب يفتح الباب، فإذا بعامل توصيل بيتزا آخر على الباب

عامل التوصيل: مرحبا، بيت الأستاذ رضوان خليل؟

يهز نبيل رأسه إيجابا

عامل التوصيل: أنا عامل التوصيل من مطعم البيتزا.. أنتم طلبتم بيتزا كبيرة بالخضار وزيادة جبن، وبدون شرائح بصل

مصدوما ينظر نبيل لرضوان وآمال وهما يبتسمان له. إظلام سريع مع مؤثر موسيقي مناسب، ثم تفتح الإضاءة على رضوان وآمال ونبيل وعامل التوصيل الجديد وهم يجلسون على الكنب وعلى الكراسي وبينهما أحاديث ويتناولون قطع البيتزا. يبدو الانسجام والضحك على الجميع.

إظلام

انتهت في 18 اغسطس 2023

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑