حارس المسرح

نص مسرحي قصير

تفتح الإضاءة على غرفة حارس مبنى مسرح، الغرفة صغيرة وعلى جدارها صور لمسرحيات قديمة، وممثل شاب في عدة أدوار تتوزع على الجدران، في طرف الغرفة موقد عليه إبريق شاي وبجانبه أكواب زجاجية، مكتب يتوسط الغرفة عليه بعض الأوراق والكتب وراديو صغير، في العمق نافذة كبيرة تطل على الشارع وفوقها ساعة جدارية تشير للساعة الثانية. نرى حارس المسرح (كريم) الرجل الستيني الذي غزا رأسه وذقنه الشيب وهو يرتدي ملابس الحارس عند الموقد. نسمع من الراديو أغنية (أنساك) لأم كلثوم وكريم يردد معها

كريم:            (وهو يعد الشاي) واحب تاني ليه/ واعمل في حبك ايه/دا مستحيل قلبي يميل/ ويحب غيرك ابدا

اهو ده اللي مش ممكن ابدا/ ذكريات حبي وحبك ما انسهاش

ينتهي كريم من إعداد الشاي، يحمل الإبريق ومعه كوب شاي زجاجي ويتجه للطاولة وهو يردد مع الأغنية، يصب له كوب شاي. يضع السكر ويقلبه، ثم يحتسي منه بعض الرشفات. يأخذ كتابا من الكتب على الطاولة (مسرحية مكبث)، ويفتحه ويبدأ بالقراءة بعد أن يرتدي نظارة قراءة

كريم:            (يقرأ بصوت مسموع) اذهب فقل لسيدتك، أن تقرع الجرس متى أعدَّت لي شرابي، ثم اذهب إلى مرقدك.

يعدل كريم جلسته ويبدو عليه الحماس أكثر، تتغير نبرته ليصبح صوته مسموعا

كريم:            (بأداء مسرحي) أهذا خنجر يلوح لي مُتَّجهَ المقبض نحو يدي. أنلني منك ما تنضم عليه الأنامل. تفر، ولكنني ما أنفك أراك، ألا يقع عليك اللمس كما يقع النظر

نلحظ من النافذة المطلة للشارع شخص يطل عبر الغرفة، إنه (سامر) نراه يطرق النافذة مراراً دون أن ينتبه له كريم المندمج في القراءة

كريم:            أم لست غير خنجر مخيل من وضع فكر ذاهل مُخَبَّل؟!

يواصل سامر طرق النافذة فينتبه كريم، يتوقف عن القراءة وينظر حوله، يقف فينبته لسامر خلف النافذة، على ملامحه الاستغراب، يشير لسامر بالدخول. لحظات ويدخل سامر مبتسما

سامر:           أنا سامر، صحفي

كريم:            أهلا بك، تفضل (يشير له بالجلوس على كرسي)

سامر:           أنا.. جئت

كريم:            أنا كريم (يشير للصور على الجدران) ممثل

سامر يبدو عليه الاستغراب يقترب من الصور، ينظر إليها ثم يشير إليها

سامر:           هذا أنت؟، يشبهك تماما

كريم:            نعم. أنا

سامر:           ظننتك الحارس

كريم:            أنا هو

سامر:           (وهو يشير إلى الصور) لكن

كريم:            (يقاطعه) الحياة لا تقف على حال، تمر السنوات وتترك أثرها على أجسادنا وعلى أرواحنا. كنت شابا آنذاك

سامر:           أكنت نجم مسرح؟

كريم:            (وهو يصب الشاي في كوب ثان) لم يكن هناك نجوم وقتها. المسرح فعل جماعي، الكل شريك فيه

يعطي كريم لسامر كوب شاي

سامر:           ولكن لكل مسرحية نجم، هو من يجذب الجمهور للعرض. نجم شباك

كريم:            لا شباك ولا باب، الجمهور كانوا يحضرون من أجل المسرحية نفسها، من أجل مضمونها وليس من أجل النجوم.. (يستدرك) قلت لي أنك صحفي؟

سامر:           نعم، في الصفحة الفنية..

كريم:            (ممازحا) يبدو أنك جئت في هذه الساعة لتجري حوارا صحفيا معي.

سامر:           (مرتبكا) أ.أ.. بالتأكيد

كريم:            (بدهشة) حقا؟

سامر:           ولم الدهشة؟. أنا سألت عنك صباحا وقيل لي أنك تتواجد هنا في الليل

كريم:            (يبتسم) نعم، أعمل هنا بالليل، أحرس هذا المسرح منذ سبع سنوات، بعد أن كنت ممثلا على خشبته

سامر:           (يشير للصور) واضح. ولكن لماذا تركت المسرح؟

كريم:            (يتنهد) العمر، رغم أن التمثيل لا يقاس بالعمر. لكن، اكتشفت أني بحاجة لوظيفة أعيش منها

سامر:           والتمثيل؟، الممثلون أثرياء

كريم:            لست من الأثرياء. لم أعش يوما حياة الأثرياء. ثم أن من تعنيهم هم من يعمل في السينما أو التلفزيون

سامر:           حتى المسرح. ألا تشاهد العروض التي يقدمها مسرحك هنا؟. نجوم يدخلون المسرح بسيارات فارهة، وحولهم حراس شخصيون، وتلاحقهم كاميرات المعجبين.

كريم:            لذلك اخترت الدوام الليلي حتى لا أراهم.

سامر:           هم زملاء مهنة، ممثلون مثلك أكيد تعرفهم

كريم:            لا علاقة لي بهم، ولا أريد أي علاقة، أنا لست مثلهم، أنا من الممثلين الذين عشقوا المسرح، ذابوا فيه حتى تحللت ذراتهم على خشبته.

سامر:           ربما يكونون مثلك.

كريم يضحك ويتجه لصورة على الجدار فيها صورته وهو شاب على خشبة المسرح مع ممثل آخر، يشير إليها

كريم:            (وهو يشير للصورة) في هذه المسرحية، عملنا ستة أشهر، تدريبات مكثفة، كلنا، ممثلون وممثلات، كنت أمشي من بيتي حتى المسرح يوميا لأكثر من ساعة ذهابا وإيابا، لأني لا أملك ثمن سيارة أجرة. أيمكن أن يكونوا مثلنا؟

سامر:           ألم يكن المسرح يدر عليكم مالا كما يدر على غيركم؟

كريم:            يدر علينا الرضا، الراحة، نرضى بالقليل الذي نجنيه من تعب الأشهر الطويلة، ينعشنا تصفيق الجمهور وما تكتبه الصحافة.

سامر:           لكن، يفترض بالمسرح أن يكون فنا ومهنة.

كريم:            لم يكن أبداً مهنة، كنا نعمل لأجل رغبتنا في معانقة شخصياتنا التي نمثلها، ننزع أردية ذواتنا حين نكون نحن الشخصيات.

سامر:           (يتنهد) أنا لا أفهم المسرح كما تصفه، المسرح مهنة يعتاش منها الكثير، يعملون طويلا ويكافؤون بالمال. يكافؤون بحب الناس.

كريم:            جرب أن تطلب من أحدهم أن يعمل بلا مقابل. هل سيقبل؟

سامر:           ولماذا دون مقابل؟

كريم:            لأن المسرح طقس صوفي يتبتل في حضرته الممثلون. طقس يتجردون فيه من كل الماديات، هي أرواح تطوف في حضرة المسرح. أجساد تتعالق، أصوات كشهقات العاشقين.

سامر:           (يتنهد بيأس) المسرح أبسط من كل ما تصفه. مكان يرتاده الجمهور الذي يبحث عن متعة، مكان يلتقط منه نكتة ليضحك عليها. يخفف بها كل الأعباء العالقة في روحه. ببساطة.

كريم:            (بغضب) هذا تقزيم للمسرح.

سامر:           أنت تستخدم مصطلحات في غير مكانها. الأمر بسيط لا يحتمل كل هذا الغضب.

كريم:            (بغضب أكبر) لأن تعريفك للمسرح هو ما أفسده.

سامر:           حسنا، اهدأ. أنا لست سوى صحفيا ولست منظر مسرح

كريم:            الصحفي يجب أن يملك وعيا. يعي تماما ما هو المسرح

سامر يبدو في ورطة يبتعد قليلا، ويقترب من المكتب، يرفع بعض الكتب على المكتب

سامر:           (يقرأ) ماكبث

كريم:            (يبتسم) قرأته؟

سامر:           (بحرج) بصراحة لا

كريم:            كيف تكون صحفيا فنيا ولم تقرأ ماكبث وربما لم تقرأ هاملت..؟

سامر:           وهل من الضروري أن أقرأ كل هذه المسرحيات لأكون صحفياً؟، أنا تخرجت من كلية الإعلام. واخترت الفن لأنني أحبه

كريم:            أم أنه يوفر لك الشهرة التي تبحث عنها، والاقتراب من النجوم؟

سامر:           (بارتباك) ربما.

كريم:            (يمد يده لسامر) لأسكب لك كوبا آخرا، يبدو أن الحديث اخذ مجرى لم نحسب حسابه.

سامر:           (وهو يمد له الكوب الفارغ) بالعكس، أنا مستمتع بالحديث معك، أنت تطرق ابوابا لم أطرقها يوما، لم أفكر فيها.

كريم:            (وهو يصب الشاي في الكوب) وهل ستنشر كل ما دار بيننا؟

سامر:           (بارتباك) نعم، لا بد أن يقرأ قراء الصحيفة رأياً مغايرا عما اعتادوه (يستدرك) ألا تشعر أنك خسرت باختيارك للمسرح. حياتك انتهت حارسا ليليا، لذات المسرح الذي كنت تمثل فيه؟

كريم:            لا، قلت لك، الرضا يهمني أكثر، الشعور بأني تركت أثرا، هنا على هذه الخشبة، أثر خطواتي، أثر أنفاسي، أثر شخصياتي التي لعبتها.

سامر:           لماذا اخترت أن تعمل هنا وليس في مكان آخر؟، لماذا المسرح ذاته.

كريم:            كل ليلة أترك غرفتي الضيقة هذي، لأصعد على الخشبة، بكل اتساعها، استرجع كل الحوارات التي علقت في رأسي، استرجع هاملت وهو يردد (بأداء مسرحي) “يا ملائكةَ السماء جميعاً! يا أرضُ! هل من شئٍ آخر؟، هل أدخل الجحيم في استغاثتي؟ تبّاً، لا تنكسر يا قلبُ” أو أردد ما قاله حنظلة[1] ” وأنا الذي ظننت العثور على صديق، ينفعه أيام الضيق. لا ينبغي أن أثق أبداً بغريب”.

يبدو سامر مشدوداً لأداء كريم، يبتسم لحظتها وكأن فكرة طرأت في ذهنه

سامر:           (مقاطعا) لو سمحت، كريم ..

يتوقف كريم وينظر لسامر مستفهما

سامر:           وددت أن أشاهدك وانت تمثل على خشبة مسرح. أنت ممثل موهوب

كريم بفرح

كريم:            حقا؟، منذ سنوات لم يحضر أحد في مقاعد الجمهور أيا مما اقدمه. المسرح فارغ ووحدي على الخشبة

سامر:           أنا سأكون جمهورك

كريم:            (بحماس) أي شخصية ترغب في أن تشاهدها؟

سامر:           اختر أنت.

كريم:            (بحماس أكثر) ستكتب عن كل ما تشاهده، ستكتب عني، عن الحارس الليلي الذي كان ممثلا.

سامر:           سيكون لك ما تريد

يتغير ديكور الخشبة بسرعة وكريم وسامر يمشيان كأنهما يغادران إلى خشبة المسرح الفارغة إلا من بعض الديكورات لمسرحية سابقة

سامر:           أنا سأختار كرسيا لي في كراسي الجمهور

كريم:            وأنا سأتجهز للدور

سامر ينزل لكراسي الجمهور ويبدأ بالبحث بينها، يستقر على كرسي، يبتسم بفرح ويجلس مرتاحا

كريم:            (بحماس) سأقدم لك حوارا لدونكيشوت

يهز سامر رأسه موافقا، يأخذ كريم مكانه على الخشبة

كريم:            (بأداء تمثيلي)  “كلا أريد النظر إلى الأشجار… انظر فقد اصفرت الأوراق… نعم، النهار يوشك أن ينصرم، يا سانشو هذا واضح. إنني

سامر يقف دون أن ينتبه له كريم المندمج في دوره وفي يده حقيبة جلدية ويهم بالمغادرة وكريم يكمل

كريم:            (يكمل) أشعر بالخوف لأنني أشعر بالخوف، لأنني استقبل غروبي، وأنا فارغ تماما، وليس ثمة ما يملأ هذا الفراغ”.

يصل سامر الى بوابة المسرح ويهم بالمغادرة لكن ينتبه له كريم

كريم:            إلى أين؟

سامر ينتبه بخوف

سامر:           كنت، ذاهبا

كريم:            تهرب؟

سامر:           لا، ولماذا أهرب.. فقط كنت

كريم:            كيف تتسلسل إلى خارج المسرح والممثل ينضح جبينه عرقا من أجل أن يؤدي دوره ويقول حواره؟، صحفي قلت

سامر:           (مرتبكا) نعم، صحفي.. أنا صحفي

ينزل كريم غاضبا ويتجه لسامر وينتبه للحقيبة بيده

كريم:            لم أرَ الحقيبة حين أتيت. من أين أخذتها؟

سامر:           إنها، إنها، حقيبتي

كريم:            لم تكن معك

سامر:           (متهربا) بل كانت معي، لكنك لم تنتبه

كريم:            أنا أنتبه لكل تفصيلة في هذا المسرح، كيف لي ألا انتبه لوجود حقيبة جلدية بيدك.. من أين سرقتها؟

سامر:           لم أسرقها، هي حقيبتي، إنها حقيبتي، نسيتها اليوم

كريم:            من أنت؟

سامر:           (بخوف) قلت لك صحفي

كريم:            بل أنت طارئ على الصحافة. لا علاقة لك بها

سامر:           بل أنا صحفي، منذ سبع سنوات وأنا أعمل في الصحافة الفنية.

كريم:            ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟، قلت لي أنك ستجري لقاءً معي

سامر:           (بورطة) نعم

كريم:            (يصرخ) كاذب. لم أر بيدك مسجلا ولا دفترا لتدوين إجاباتي

سامر يبدو متورطا يصمت وهو ينظر لكريم الغاضب.

كريم:            مرة أخرى أسالك، من تكون وإلا سلمتك للجهات الأمنية بتهمة السرقة

سامر:           لا، ارجوك، لا تورطني، أنا صحفي

كريم:            (بغضب) كاذب، عدت لمراوغتك

سامر:           صدقني أنا صحفي.

كريم:            وما الذي أتى بك. لم أنت هنا بعد منتصف الليل؟

سامر:           (بتردد) أنا، نسيت.. حقيبتي، جئت مساءً لأحضر المسرحية، ونسيت الحقيبة على مقعدي هنا، وخفت أن لا أجدها. الحقيبة فيها أوراقي ودفتري ومسجل سجلت فيه لقاءات مع كل الممثلين

كريم:            وكذبت علي وقلت لي بأنك أتيت لتجري معي حوارا.

سامر:           أنت من ورطني في هذه الكذبة.

كريم:            للحظة صدقتك، ظننت أن أحدا تذكر وجودي. للحظة ظننت أني سأعود إلى الأضواء ولو عبر لقاء صحفي. صدقت الصحفي الذي لا يعرف من المسرح إلا مشاهيره ونجومه.

سامر:           سأعدك أن أعود ثانية وأجري اللقاء معك، لكن علي أن أستأذن مدير التحرير.

كريم:            لم اعد بحاجة للقاءاتكم ولا لصحافتكم ولا لإعلامكم.. غادر، غادر الآن (يصرخ) غادر

يهم كريم بالمغادرة لكنه يقف ويبدو عليه الأسف يحاول أن يكلم كريم الذي يصعد للمسرح مكسورا يراقبه سامر

كريم:            (وهو على الخشبة) خيبات تجر خيبات، لم يعد لنا مكان في هذا العالم الذي لم يعد يشبهنا، عالم بلا معنى، عالم هش، خواء، نحن لسنا أبناء زمنكم.. ليت الزمن توقف وظل كما هو، ليت المسرح بقي كما هو ولم يتغير، ليت الخشبة ظلت بكل ما فيها من بساطة وأناقة، الخشبة الآن صارت تصبغ وجهها بالمساحيق لكن بلا روح. وجه بلا تعابير. جامد بلا ملامح، غادروا هذه الخشبة ولا تفسدوها، الخشبة التي قدستها الكلمات وطهرتها طقوس الممثلين في حضرة المسرح. لا تفسدوها، لا تفسدوا هذا الطهر..

سامر يراقب كريم مشدوها وهو يمسك حقيبته الجلدية. بينما ينزل كريم على ركبتيه وهو في قمة حزنه وإحباطه.. مؤثر موسيقي لدقات قلب تتسارع، ثم تختفي فجأة مع سقوط كريم على الأرض.

إظلام سريع ثم إضاءة على غرفة الحارس نفسها، ولكنها متغيرة تماما، صور نجوم مسرح على الجدران، ولا أثر لكل الصور السابقة لكريم، لا كتب على الطاولة، ثلاجة صغيرة في عمق المكان، الساعة كما هي على الساعة 2 بعد منتصف الليل، الحارس الشاب يفتح الثلاجة ويخرج علبة مياه غازية منها ويغلقها، ويتجه إلى الكرسي خلف الطاولة. يضع رجله على الطاولة ويأخذ صحيفة موضوعة على المكتب، يفتحها ليختفي خلفها فنرى خبرا في الصفحة الأخيرة متلازما مع قراءة من صوت خارجي

الصوت:         وقد توفي الحارس الليلي كريم أحمد الذي كان يعمل لسنوات طويلة حارسا للمسرح الوطني أثناء تأديته لعمله في الحراسة. فقد فتوقف قلبه وهو على خشبة المسرح. حيث وجده عمال النظافة صباحا ميتا

إظلام

22 نوفمبر 2023


[1] من مسرحية حنظلة لسعد الله ونوس

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑